المعلم هو الجسر الذي تعبر عليه الأمم نحو النهضة، وهو الشعلة التي تنير دروب الأجيال لتصل إلى أفق الحضارة والرقي، لم يكن دوره يوماً مقتصراً على نقل المعرفة أو حشو العقول بالمعلومات، بل كان ولا يزال صانعاً للوجدان، موجّهاً للفكر، وبانياً للقيم، المعلم هو من يُحيي النفوس، ويهذب العقول، ويزرع في تربة الأجيال بذور الأمل والإبداع، وكما قال الفيلسوف أرسطو: «نحن لا نولد عقلاء، بل نصبح عقلاء بالتعلم».
إن دور المعلم يتجاوز قاعات التدريس وحدود المناهج، فهو قائد يصوغ العقول ويبني المجتمعات، التاريخ حافل بأمثلة لأدوار المعلمين في تغيير واقع أمم بأكملها، فقد كان العلماء والمعلمون على مر العصور قادة النهضة ومرشدي الإصلاح، تأمل دور العلماء في الحضارة الإسلامية، من ابن خلدون إلى الغزالي، وكيف ساهموا في بناء أمة كانت قائدة للعالم في شتى العلوم والفنون، وحتى في العصر الحديث، نجد دولاً كفنلندا وسنغافورة قد وضعت المعلم في قلب إستراتيجياتها التعليمية؛ ما جعلها مثالاً يُحتذى به في العالم.
لكن في واقعنا المعاصر، هل نحترم المعلم كما ينبغي؟ نظرة المجتمع للمعلم تؤدي دوراً حاسماً في تمكينه من أداء رسالته، عندما يشعر المعلم بالتقدير من قبل طلابه ومجتمعه، تنبعث في روحه طاقة الإبداع، ويتحول تدريسه إلى شغف، أما إذا أحاطته نظرات التقليل، فإن الحماسة تخبو، وتتحول الرسالة العظيمة إلى مجرد وظيفة، وكما قال نيلسون مانديلا: «التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم»، فإن تمكين المعلم هو الخطوة الأولى نحو استخدام هذا السلاح بفعالية.
إن بناء المعلم القائد للتغيير لا يبدأ من المدارس وحدها، بل يتطلب منظومة متكاملة تشمل التدريب، والتأهيل، والدعم، يجب أن يُعدّ المعلم ليكون قائداً مبدعاً قادراً على التفكير النقدي، وفهم طلابه، وتحفيزهم، كما يحتاج إلى بيئة تُعزز من قيمته الإنسانية والمهنية، فلا يُعامل كمجرد ناقل للمعرفة، بل كصانع للتغيير، الإسلام نفسه أعطى المعلم مكانة عظيمة، وبيّن دوره المحوري في بناء الأمة، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير».
المعلم يحتاج إلى دعم حقيقي من المجتمع، يبدأ بتقدير دوره واحترام جهوده، ويمر بتحسين ظروف عمله وتقديم برامج مستدامة لتطويره، لكن الأهم من ذلك كله هو إشراك المعلم في صياغة القرارات التعليمية، ومنحه صوتاً في تشكيل السياسات التي تؤثر في رسالته، وكما يقول الإمام الغزالي: «العلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لا يكون»، فإن تمكين المعلم بالعلم والعمل هو السبيل لصناعة أجيال قادرة على النهوض بأمتها.
وإذا كان المجتمع شريكاً في نجاح المعلم، فإن الإعلام والمؤسسات التربوية عليهما مسؤولية تعزيز مكانته، الأسرة أيضاً تؤدي دوراً محورياً في دعم المعلم، من خلال التعاون معه في بناء شخصية الطالب، الاحترام المتبادل بين المعلم وأولياء الأمور هو الأساس الذي تقوم عليه علاقة تربوية ناجحة.
المعلم ليس مجرد موظف يؤدي واجباً يومياً، بل هو نبض المجتمع وصانع المستقبل، قال مالك بن نبي: «إذا أردت أن تقيس حضارة أمة فانظر إلى قيمة التعليم فيها»، ومن هنا فإن دعم المعلم هو استثمار مباشر في بناء مستقبل مشرق.
إن صناعة المستقبل تبدأ من غرفة الصف، وكل معلم يحمل بين يديه مفاتيح الغد، فلا يمكن لأي مشروع نهضوي أن ينجح دون أن يبدأ من المعلم، فهو القائد الذي يصوغ العقول ويصنع الأمل، إن دعم المعلم وتقديره ليس ترفاً، بل هو واجب وطني وإنساني، لأنه ببساطة يبني أجيالاً تحمل شعلة النهضة.
نحن بحاجة إلى رؤية جديدة تجعل من المعلم شريكاً في صياغة مستقبل أمته، ليكون قائداً حقيقياً للتغيير، وحاملاً لرسالة سامية تتوارثها الأجيال، فالمعلم هو البداية والنهاية في قصة بناء الأمم.