نتناول في هذه المقالة الموجزة ما تتعرض له مركزية فكرة “الدين” في واقع المجتمع المصري المعاصر، والدعوات التي تُطلق بين حين وآخر تدعو إلى إلغاء مادة “التربية الدينية” من التعليم العام أو مهاجمة التعليم الأزهري وربط مناهجه بالحوادث الإرهابية، وهذه الوقائع والدعوات في الحقيقة كما نراها ليست وليدة اللحظة ولا الحوادث ولكنها ذات أثر عميق في المشروع التغريبي الاستعماري الذي ما زال يهيمن على مقاليد الأفكار في عالمنا الإسلامي.
المشروع التغريبي وفكرة “الدين”
إن ما تعرض له العالم الإسلامي إبان القرنين الـ19 و20، لم يكن فقط غزوًا عسكريًا أو اقتصاديًا، بل امتد أيضًا إلى غزو “العقل المسلم” و”المجتمع المسلم” و”الثقافة الإسلامية” في وطنها الإسلامي، من خلال معركة قادها الاستعمار الغربي اتفق على تسميتها بالغزو الفكري أو الغزو الثقافي، والذي كان هدفه بالأساس هو تحقيق الهيمنة القائمة بصورة كاملة على البلدان المسلمة.
فتهيئة العقول للأفكار الغربية، بل والادعاء بأن خلاص تلك البلدان يكون باتباع تلك الأفكار المستوردة وقيمها وتصوراتها ومفاهيمها في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية والثقافة هو ما من شأنه التمكين للمستعمر وتسهيل مهمته الاستعمارية العسكرية والسياسية. والهدف الثاني للغزو الفكري أو الثقافي هو تحقيق التبعية حال رحيل المستعمر وذهابه – حيث أيقن أنه لا يمكن أن يستمر في احتلاله العسكري إلى ما لا نهاية وهذا ما أفرزته السنن الاجتماعية وحياة الشعوب.
فكأن هذا النوع من الغزو لتظل هذه الدول المستعمرة في حالة “تبعية” دائمة على المستوى السياسي والاقتصادي، ومع الأسف نجحت هذه النظرية وحقق الاستعمار هذا الهدف في عالمنا الإسلامي بعد مرور ما يقرب من قرن من اتفاقات الاستقلال (!!) والتي ظنت الشعوب بأنها “اتفاقات” حقيقية وأنه “استقلال حقيقي”.
ومهما يكن من تباين المصطلحات التي استخدمت لوصف تلك المعركة الفكرية سواء كانت “غزو فكري” أو “غزو ثقافي” أو “إحلال ثقافي” أو “تغريب”، فمضمون تلك المصطلحات الثقافي والفكري هو تعبير متشابه إلى حد التطابق لجوانب هذه المعركة الفكرية ونتائجها على المشهد الفكري والثقافي والاجتماعي الإسلامي.
وكانت فكرة إزاحة “الدين” من الواقع الاجتماعي من الأفكار التي تمركز حولها المشروع التغريبي وظهر في دعوته المشهورة (فصل الدين عن شؤون الحياة أو عن الدولة) وهو ما تفكك عبر الدولة القومية التي أنشأها الاستعمار في عدة مسارات: فصل الدين عن السياسة وإنشاء الحياة السياسية على أساس لا ديني، ثم فصل الدين عن الاقتصاد والعمل بالربا وإنشاء المؤسسات الاقتصادية الربوية وإصدار القوانين والتشريعات لذلك، ثم فصل الدين عن القوانين والتشريعات، فقامت القوانين على أسس وضعية، ثم فصل الدين عن التربية والتعليم والثقافة وهو ما نجح في صورة تأسيس التعليم المدني العام في مقابل التعليم الديني المتمثل في المؤسسات الدينية القديمة كالأزهر أو المدارس القرآنية أو الحقانيات.
مصر واستمرار المعركة الفكرية التغريبية ضد “الدين”
تعرض المجتمع المصري في سنواته الأخيرة إلى خلل واضح في بنائه الاجتماعي وتماسكه الذي تميز به عبر آلاف السنين نتيجة للمتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت بصورة لم يشهدها من قبل، واستغل هذا الخلل في زحزحة كثير من الأفكار والقيم الأصيلة التي قام عليها هذا المجتمع، وكانت ومن بين هذه الأفكار التي يحاول البعض إزاحتها من المكونة الثقافي للمجتمع المصري فكرة “الدين” ذاتها، والذي تعرض لمحاولات تشويه تارة، ومحاولات “اختزال” تارة ثانية، ومحاولات هجوم ومحو تارة ثالثة.
ففي مطالب برلمانية أخيرة أكد بعض أعضاء مجلس النواب في دورته الحالية (2016م) بالتوصية بإلغاء “حصة الدين” في التربية والتعليم (التعليم قبل الجامعي) وذكر أحد النواب “أن إلغاء حصة الدين أصبح ضرورة”!؟
كذلك – أيضًا – ظهر في المشهد الثقافي المصري خطابات (مُفَكِكَة) لمنظومة القيم الدينية، لاسيما تلك الخطابات التي ربطت بين (حوادث الإرهاب) وبين (الإسلام) كدين، أو تطاول بعض الرموز الإعلامية على الرموز الدينية الإسلامية في برامج الفضائيات المصرية.
كما أُعدت مناهج بديلة (في المركز القومي للبحوث التربوية) تحمل اسم (القيم والمواطنة والأخلاق) لمادة التربية الدينية بالمدارس، ولكنها ما زالت – رغم إعدادها وطباعتها قيد الأدراج – وقد صدر من هذا المقرر في المدارس (دليل المعلم المرجعي في القيم والأخلاق والمواطنة)، وزارة التربية والتعليم، 2014م، تحت إشراف شيخ الأزهر وبطريرك الكنيسة المصرية الأرثوذكسية، ووزير الأوقاف ووزير التعليم آنذاك.
إن المتابع يلاحظ بوضوح محاولات لتحريك فكرة الدين من قلب الثقافة في مصر إما عن طريق التشويه (ربطه بالأحداث الإرهابية) أو اختزاله في المسجد والشعائر والطقوس والعلاقة الفردية بين الإنسان وخالقه واستبعاده من النظم والتشريعات الاجتماعية أو إزاحة حجم تقديمه الكمي والكيفي -على ضعف- من المقررات الدراسية في التربية والتعليم، فضلًا عن انعدامه في التعليم الجامعي العام. وهذا بدوره مؤثر بصورة سلبية على مكانة منظومة القيم الإسلامية أحد العناصر الأساسية المشكلة للمجتمع المصري.
وقد تطورت هذه المحاولات عبر عدة مسارات من النعومة إلى الخشونة ومن التلميح إلى التصريح ومن الترويج لضرورة هذا الإلغاء إلى نفيه تحينا للوقت المناسب ..فقد بدأت تلك المحاولات في الربط المفزع بين الوقائع والحوادث الإرهابية التي -لم يثبت علاقة فاعليها بالدين أو مناهجه الدراسية المقررة في المدارس أو الأزهر الشريف – وبين مناهج التعليم الأزهري، حيث قادت الصحف ووسائل الإعلام حملة أقل ما توصف أنها حملة شرسة وغير أخلاقية بدأت على مناهج الأزهر الشريف، ثم على شيخ الأزهر بصفته ، ثم على الأزهر ذاته ووجوده وكيانه ودوره التاريخي. ويجرى في إطارها الآن إعداد مشاريع قوانين خاصة بالأزهر تستبيح هذه المحاولات وتمكن لها.
ثم انتقلت الحملة الإعلامية من الأزهر أو توازت معها حملة أخرى على مادة التربية الدينية في مدارس التعليم العام، والمعروف أنها المقرر الوحيد الذي يعني بالثقافة الإسلامية في التعليم العام الجامعي، بينما ينعدم تمامًا هذا المقرر في التعليم الجامعي – إلا في الجامعة الأزهرية بحكم طبيعة الدراسة- حيث طالعتنا الصحف في نهاية شهر أبريل 2017م بقرار من وزير الأوقاف – وهو غير ذي صلة أو صفة – بإلغاء مادة التربية الدينية وهو الخبر الذي تناقلته برامج “التوك شو” بمنتهى “السعادة والفرحة”.
لماذا تصفية فكرة “الدين” من قاموس التربية والتعليم؟
المحاولات الآن في مصر – وكما يحدث مع المدارس القرآنية في الجزائر في نفس التوقيت – هي تصفية فكرة “الدين” ذاتها في مكون الهوية والثقافة الإسلامية، ومن ناحية أخرى تتعلق فكرة الدين وتتجذر بفكرة الحضارة والبناء الحضاري المنشود لهذه الأمة، فإذا كانت الحضارة بحسب تعبير مالك بن نبي يقصد بها “تغيير الإنسان وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يُكوِّن معهم مجموعة القوى التي تغير شرائط الوجود نحو الأحسن دائمًا وكيف يُكَوِّن معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ”.
فإن ”شرائط الوجود” تفضي إلى ما يتعلق بوجود الإنسان على الأرض، القيم، المعايير، التصورات، وهذه كلها – أي شرائط الوجود- لا تتوافر إلا في مرجعية الفكرة الدينية المتجاوزة والتي تحدث التحولات والنقلات الحضارية للإنسان، وتحدد مكانة الإنسان في الكون ومركزه “الاستخلافي” ورسالته في تحقيق القيم الحاكمة للوجود في: العمران، التزكية والتوحيد.
وتقوم الفكرة الدينية– أيضًا- بضبط وتوجيه الطاقة الحيوية للفرد في اتجاه العمل والنشاط الحضاري للمجتمع وتساهم في تأسيس شبكة العلاقات التي هي ميزان مستوى الحضارة، ” فالفكرة الدينية هي الظرف الاستثنائي الذي يلد مجتمعًا يتفق في الواقع مع الفكرة الدينية…ومعنى هذا أن شبكة العلاقات بكل ما تحتويه من خيوط وأطراف سيتسنى للمجتمع بفضلها أن يؤدي عمله التاريخي”.
إن التوهج الذي تحدثه الفكرة الدينية في البناء الحضاري لا يمكن أن تحل محله فكرة أخرى في الواقع الإسلامي ، إن توهج الفكرة الدينية وجذبها الاجتماعي يجعلها تقوم في المجتمع بدور القائد والموجه لنشاط الفرد والمجتمع، وهي المرحلة التي تطبع فيها سلوك الفرد، وتتكون شبكة العلاقات الاجتماعية في أكثف حالاتها حول الفكرة الدينية… وهذه المرحلة هي العصر الذهبي لأي مجتمع؛ لأنه يتمتع بميزتين: فقواه جميعًا في حركة، وهذه الحركة دائمة وصاعدة… وفي هذه المرحلة يخضع تنظيم الطاقة الحيوية للفرد كلية للفكرة الدينية ، ويتم توجيهها إلى مقتضيات وغايات المجتمع السامية في هذه اللحظة التاريخية من ميلاده، بما يحقق النشاط المشترك للمجتمع في هذه اللحظة التاريخية لحظة ميلاد الحضارة”.
إن الدين يمثل التركيب الجوهري للحضارة فمع توافر عناصر التحضر الأساسية (الإنسان والتراب والوقت) إلا أنها لا تستطيع أن تُكِّونَ حضارة من غير وجود الدين “فالوسيلة إلى الحضارة متوفرة ما دامت هنالك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ الحضارة”. ” ولكي نتوصل إلى التركيب الضروري لحل المشكلة الإسلامية؛ أي مزج الإنسان والتراب والوقت، يجب أن يتوفر لدينا مؤثر الدين الذي يغير النفس الإنسانية… ومن ناحية أخرى فإنه بتأثير الدين في الكون تكون قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين، وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ، فجوهر الدين مؤثر صالح في كل زمان ومكان. وتسجيل الدين في النفس يمكن أن يتجدد ويستمر ما لم يخالف الناس شروطه وقوانينه “، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (النور:63).
إن من علامات انحلال المجتمع الإسلامي هو تخليه عن الفكرة الدينية كضابط داخلي للإنسان على المستوى الفردي ومنظم خارجي لحركة المجتمع ومن ثم تسود الغرائز التي تعبر عن أبشع صور هذا الانحلال الاجتماعي على المستوى الفردي والجماعي والمجتمعي: غريزة القوة، غريزة الصراع، غريزة العداء، غريزة الجنس وغيرها حيث يطلق لها العنان للعمل بلا ضابط أو وازع داخلي أو خارجي.
إن مرحلة الغريزة هي مرحلة انحلال الحضارة والمجتمع والتي تبدأ بتحلل الغرائز نهائيًا من سلطة العنصر الديني، فلا تعود تعمل بشكل منسجم مع حركة المجتمع ونشاطاته الحضارية، ولكنها تعمل بصورة فردية، كل يعمل لحسابه الخاص، ومن هنا يختل نظام الطاقة الحيوية، ويفقد قيمته الاجتماعية، وتتحلل شبكة العلاقات. وفي هذه المرحلة- أيضاً- تسود الفردية، وتتفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية نهائيًا، ويدخل المجتمع في عصر الانحطاط. وهو العصر الذي هيأ في المجتمع الإسلامي مناخ القابلية للاستعمار والاستعمار.
وبهذا نكون وصلنا إلى إجابة التساؤلات المطروحة: لماذا يصرون على إلغاء مادة التربية الدينية في مصر؟ ولماذا تصفية فكرة “الدين” من قاموس التربية والتعليم؟
المصدر: “إسلام أون لاين”.