اللغة في عرف اللسانيِّين والفلاسفة نظامٌ معقَّد يستعمله الإنسان للتواصل مع الآخرين، سمته البارزة الأصوات. وهذه الأصوات تأتلف فيما بينها لتنشئ الوحدات اللسانيّة الدالّة. وهذه الوحدات بدورها تتشكّل فيما بينها لتكوّن التراكيب. والتراكيب من جهتها تخضع لضوابط أو قوانين تتحكّم فيها حتّى يكون الكلام سليما ودالًّا. وبفضل الوحدات والتراكيب تنشأ المعاني المستفادة وتحقِّق اللغة وظيفتها.
وأمّا الفكر فهو عمليّات ذهنيّة لحلّ المشكلات، أو أخذ القرارات، أو توضيح كلّ ما يتعلّق بأمور وجودنا وحياتنا. وهذه العمليّات الذهنيّة تحصل في الدماغ، حيث المراكز العصبيّة للفهم والحفظ والسمع والنظر والإدراك والكلام.
والعلاقة بين الفكر واللغة غير خافية. إذ لا توجد لغة دون فكر، ولا يوجد فكر دون لغة. والأمران متلازمان. وأعتقد أنّه لا مانع من تشبيههما بوجهي الورقة الواحدة، مثلما قام بهذا دي سوسير في تبيان العلاقة المتينة بين الدالّ والمدلول. وهذان الوجهان أحدهما ملموس مدرك بالسمع أو النطق ألا وهو اللغة، والآخر مجرّد يحصل في العقل أو الذهن. وإنّه لمن الصعب إنكار هذه العلاقة لأنّنا لا نجد في الأصل تفكيراً مجرّداً بعيداً عن اللغة، حتّى وإن كان في عالم الرموز من نحو ما نجده في الرياضيّات أو المنطق.
والدليل على إثبات هذه العلاقة المتينة، كوننا لا نستطيع أن نصوغ أفكارنا خارج نطاق اللغة، ولا أن نعبّر خارج نطاق اللغة، اللهمّ إلّا في الحديث، وفي ضرب من التوسّع، عن بعض الإبداعات الفنّيّة كالرسم.. والفكر الرائج في الأدبيّات العلميّة والإبداع الأدبيّ والفكريّ عموماً دليل على هذا، سواء كان بصورته المكتوبة أو المنطوقة. والتعبير باللغة عن فكر ما لا بدّ أن تصحبَه قدرة واضحة على البيان أو التبيين، وقدرة على تحليل الأمور وتقليبها على أوجهها المختلفة، وتوصيف الظواهر وتفسيرها أو تعليلها، مثلما تصحبه قدرة على طرح الأفكار والآراء ومناقشتها، وتقديم البرهان على صحّتها وسلامتها، أو دحضها والاستعاضة عنها بغيرها. وكلّ هذا بغاية بلورة الأفكار وتوضيحها من أجل تمريرها وإقناع الطرف المقابل بها.
وممّا يدلّ على طبيعة هذه العلاقة أيضاً، أنّنا لا نستطيع أن نبدع في مستوى اللغة، إن كنّا لا نملك أفكاراً، أو أن يكون الجانب المعرفيّ ضعيفاً، أو أن يكون اطّلاعنا على موضوع ما في اختصاص ما دون المطلوب. فامتلاك الأفكار أو امتلاك المعرفة شرط للتفنّن في اللغة وحسن استعمالها، وتفجير طاقاتها. وفي المقابل حسن امتلاك اللغة من شأنه أن يساعدنا على تجلية أفكارنا، وإبرازها في حيّز الواقع، سواء كان في مستوى المنطوق أو المكتوب.
إنّ الطفل في اكتسابه للغته الأمّ لَيُعتبر دليلاً عند بعض اللسانيّن على التضافر عنده بين اللغة والفكر. ذلك أنّ الطفل في أيّامه الأولى لا يفكّر ولا يتكلّم. وهذا يعود بطبيعة الحال إلى ضعف مكوّناته الجسديّة، ومحدوديّة أجهزته أو أعضائه المختلفة، بما فيها المخّ والمراكز العصبيّة التي يتكوّن منها.
وما أن ينشأ الطفل ويكبر شيئًا فشيئًا حتّى نتبيّن أنّ عمليّة الكلام عنده لا تنفصل عن الفكر أو التفكير. وبقدر ما تنمو الجوانب اللغويّة عنده تنمو الجوانب الفكريّة، ولعلّ العكس صحيح أيضا. فالطفل في مرحلة متقدّمة من عمره ينظر إلى كلّ الرجال على أنّهم كلّهم آباء له، أو على الأقل يُطلق عليهم “بَابَا”. وهو ينظر إلى كلّ الأكل على أنّه “مَمَّة”، وعلى كلّ الشرب أنّه “بُوَّة”، مع الفارق في التعبير باللغات المختلفة بطبيعة الحال. وكلّما كبُر قليلاً إلّا وبدأ في التمييز بين الأشياء من حيث الإدراك ومن حيث التعبير في الآن نفسه.
إنّ التعبير عن الأفكار باللغة لَأعقد ممّا نتصوّر. وموضوع اللغة ليس أمراً بسيطاً مثلما نتوهّم. وذلك بالرغم ممّا حظيت به اللغة من اهتمام على امتداد تاريخ البشريّة. فعالَم اللغة عالم عجيب، ولعلّ عالَم الفكر أعجب منه.
المصدر: “الألوكة”.