جاء الوالدان إلى المستشفى في الموعد المحدَّد مصطحبَينِ معهما قرة العين وفلذة الكبد، الذي قرَّر له الطبيب إجراء عملية جراحية عاجلة، ودخل الطفل غرفة العمليات وجلسا ينتظرانه، وبعد مضي ما يقارب الساعتين خرج الطبيب وقد ظهرت عليه آثار التعب وأخبرهم بنجاح العملية، وأن طفلهم الآن في غرفة الإفاقة؛ لكن إفاقته قد تستغرق وقتًا أكبر نظرًا لأخذه جرعة تخدير زائدة، فلا داعي للقلق.
في هذه اللحظات بدأت التساؤلات الوجلة: هل هناك خطر يا دكتور على حياة طفلنا؟ أخبرهم: لا! لا أبدًا، لا تقلقَا سيعود الطفل إلى حياته الطبيعية بإذن الله تعالى.
جلس الوالدان بجوار طفلهما بانتظار إفاقته، ومن حين لآخر يرقبانه ويهمسان في أذنيه: يا ولدي، استيقظ، هل تسمعنا؟! بدأ الطفل في الحركة، وبدأ يهذي بحديث لا يُعرَف ولا يُفهَم معناه، حينها بدأ القلق يخف تدريجيًّا، وأصبحا يناديانه باسمه الذي يدلَّلانه به فرحين بسلامته.
أيها المربي الفاضل، وأيتها المربية الفاضلة، إن زيادة جرعة التخدير أو زيادة حصة الدواء تؤدي إلى آثار سيئة وعواقب وخيمة، وهكذا كل ما زاد عن حدِّه في أي قضية، وعلى رأسها قضية الترفيه، فإن زيادة جرعة الترفيه في تربية تؤدي إلى آثار لا شك أن المربين والمربيات قد اكتووا لظاها، وتجرَّعوا مرارتها، ومن أبرزها وأولها: ضَعف الاهتمام بالعبادات والتكاسُل في أدائها، نسيان الآخرة والتعلُّق بالدنيا، ضَعف مراقبة الخالق عز وجل، ضياع ساعات العمر فيما يجلب الحسرات وتتابع الندامات.
ولزيادة جرعة الترفيه صور في واقعنا؛ منها:
من صور زيادة جرعة الترف في حياتنا ما نراه من الإفراط المتناهي في المآكل والمشارب والملبوسات، والأجهزة الذكية والألعاب الإلكترونية، والمركوبات الفارهة، وغير ذلك مما هو مشاهد وملموس.
ومنها أيضًا الدلال الزائد للمتربين، والخوف الزائد عليهم، والتساهُل في التوجيه المستمر، والمتابعة الدائمة في أداء العبادة والقيام بها، فتجد بعض الآباء يترك ولده نائمًا عن الصلاة بحجة راحته وعدم إزعاجه، وتجد بعض المناشط التربوية يُكثرون من البرامج الترفيهية؛ ممَّا أدَّى إلى هشاشة في المخرجات.
أيها المربي، أيتها المربية، لن أخوض في تعريفات ومصطلحات الرفاهية، ولن أُغرق في ذلك؛ بل سأتجاوز ذلك كله مقتصرًا على تعريف الراغب الأصفهاني رحمه الله، فلقد عرَّفه بقوله: التوسُّع في النعمة؛ يُقال: أترف فلان فهو مترف، ﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [المؤمنون: 33]، ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ﴾ [هود: 116]، ﴿ وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ﴾ [الأنبياء: 13] ﴿ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ﴾ [المؤمنون: 64]، وهم الموصوفون بقوله سبحانه: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ﴾ [الفجر: 15] [1].
أيها المربي، أيتها المربية، أُدركُ تمامًا حرصكم على تربية الأجيال والأبناء، بل أدركُ تفانيكم في بذل ما تملكون من أجل إسعادهم، وإدخال السرور عليهم، وأدرك استشعاركم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته)) [2].
لكن التربية الجادة ليست سهلة، وخصوصًا في زماننا الذي مُلئ بالمغريات، وليس المراد محاربة الترفيه وإغلاق بابه بالكلية؛ وإنما المراد الاقتصاد والاعتدال والتوسُّط في كل أمور الحياة، وعدم تعلق وركون القلب للترف والدلال الزائد الذي يجرُّ على الأجيال ويلات وويلات إن لم يتصدَّ لها المربُّون والمربيات بحزم صادق، وتربية واعدة ناضجة، وتوجُّه سديد قويم جاد، لانفرط ذلكم العِقد، وضاع الجهد.
إنَّ على المربِّين والمربيات واجبًا تجاه فئات المجتمع وأطيافه المتنوِّعة، وعليهم أن يركبوهم في سفينة النجاة للوصول بهم إلى شواطئ النجاح والأمان والفلاح والرشاد.
ولننظر ونتأمل في سير سلف الأمة كيف تربوا وربَّوا الأجيال على ما يعود بالصلاح والنفع عليهم، وكم نحن بحاجة إلى درَّة سيدنا عمر رضي الله عنه في بعض المواقف والأحيان؟
ولننظر أيضًا في حال سِيَر أهل الترف قديمًا وحديثًا، وماذا جرَّ عليهم الترف في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
وفي ختام مقالتي هذه أهمس في أذن كل مربٍّ ومربية أن نستعين بالله، ونتوكَّل عليه، وندعوه في أن يصلح الأحوال، وأن يُعيننا في أن نعيد هؤلاء المتربِّين إلى الجادة.
أيها المربُّون، لنستثمر أوقاتهم بالنافع المفيد، ولنقدم لهم برامج ودورات تأهيلية علمية تربوية نوعية تحصينية.
ولنربطهم بجيل الصحابة رضي الله عنهم، وبالقدوات الكبار إلى غير ذلك مما يستطيع بذله أمثالكم تجاه مجتمعاتهم، وكما تعلمون أن صناعة الأجيال فنٌّ لا يتقنه إلا أنتم، فعودوا لترميم دور التربية من جديد لاستقبال مَهيب، وحفل بهيج، وبناء مجتمعي مُحكم قويم.
ولنعود إلى منهج الإسلام الخالد في التعامل مع نعم الله السابغات وتطبيق قواعده المثلى في واقع حياتنا العملية التطبيقية المنطلقة من قول الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، ومن قول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا وتصدَّقوا والبسوا ما لم يخالطه إسرافٌ أو مخيلة))[3]، فالعودة إلى المنهج المعتدل القويم السديد وامتثاله وتطبيقه، هو النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وإذا سرتم على هذا فستقطفون الثمار، وتحصدون النتائج المرضية، وتفرحون برؤية البنيان المرصوص في الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونسألك شكرَ نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شرِّ ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، والله الموفق والمعين، وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
—————–
[1] الأصفهاني؛ أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (المتوفى: 502هـ)، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، (دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت، ط1، 1412 ه)، ص 166.
[2] صحيح البخاري، كتاب: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: العبد راع في مال سيده، ولا يعمل إلا بإذنه 3/120 حديث 2049، صحيح مسلم، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، 3/1459، حديث 1829.
[3] سنن ابن ماجه، كتاب: اللباس، باب: البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة، حكم عليه الألباني رحمه الله تعالى بالحسن 4/600، حديث رقم 3605.
——-
* المصدر: الألوكة.