عامًا بعد آخر، يرتفع تصنيف الجيش الياباني عالميًا، متفوقًا على جيوش دول تثير صخبًا أكبر على الساحة الدولية، سواء من حيث عقد صفقات التسليح أو الدخول في نزاعات مسلحة.
وبمعدل إنفاق سنوي ثابت لا يتجاوز 1% من الناتج الإجمالي الخام، تمكنت طوكيو من ترسيخ وجودها في قائمة القوى العسكرية العشر الأولى، حسب تصنيف موقع “جلوبل فاير باور”.
وبين عامي 2013 و2014، حققت البلاد قفزة كبيرة من المرتبة السابعة عشرة إلى العاشرة على سلم الترتيب، ومنها إلى المرتبة الثامنة في 2018، رغم أن دستورها يقيد عمليات التسليح والتطوير الكبيرة والمشاركة في النزاعات.
وفي الواقع فإن نسبة 1% من الناتج الإجمالي الخام تعبر عن رقم كبير بالنسبة لبلد هو الثالث من حيث حجم الاقتصاد في العالم، إذ تجاوز معدل إنفاقه العسكري في الأعوام الخمس الأخيرة 45 مليار دولار سنويًا، حسب بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام.
المادة (9) من الدستور
وفي مايو 2017، كشف رئيس الوزراء شينزو آبي عزمه إلغاء أو تعديل المادة التاسعة من الدستور، التي تقيد تسليح البلاد أو امتلاك قدرات هجومية، وذلك بحلول عام 2020.
ويعد إلغاء المادة بمثابة إعلان انتهاء مرحلة الهيمنة الأمريكية المطلقة على شؤون البلاد الدفاعية، التي بدأت بهزيمة طوكيو في الحرب العالمية الثانية عام 1945.
لن يعني ذلك بالتأكيد انتهاء التحالف الاستراتيجي بين الجانبين، إذ إن الخطوة لن تتم سوى بتنسيق بينهما وبعد عقد صفقات تسليح ودفاع مشترك تحصل واشنطن من خلالها على مليارات الدولارات.
وقد دفع تولي دونالد ترمب الرئاسة في الولايات المتحدة نحو تسريع وتيرة هذا التوجه، إذ أعلن مرارًا أنه يعارض استمرار إنفاق بلاده على حماية دول أخرى “غنية” مثل اليابان “دون مقابل”.
وخلال العام الجاري، يتوقع أن يتصاعد اتخاذ الجانبين خطوات عملية في هذا المسار، وكانت أولى إرهاصات ذلك إقرار حكومة آبي، نهاية 2018، برنامجًا دفاعيًا لـ10 أعوام، يتضمن تطوير حاملة طائرات ونشر منظومات دفاعية وتطوير القدرات السيبرانية والفضائية، والأهم؛ شراء 105 مقاتلات من طراز إف-35 الأمريكية.
وحسب وسائل إعلامية يابانية، فإن البلاد تأمل في أن يساهم ذلك في خفض العجز التجاري مع الولايات المتحدة، ومعالجة مخاوف ترمب في هذا الإطار، وهو ما قد يساهم في تجنيب السيارات اليابانية جمارك أمريكية.
طموح ومخاوف
لا تخفي طوكيو اهتمامها بنفض غبار الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، والاضطلاع بأدوار أكبر على الساحة الدولية.
وفي هذا السياق، قال “آبي” في ديسمبر الماضي: إن مساعيه تعديل الدستور تهدف إلى “إعادة بناء الأمة”، واصفًا بعض فقراته بـ”المذلّة”.
إلا أن تصريحات آبي أظهرت في المقابل هواجس من أن تنسحب واشنطن من شرق آسيا، وهو ما ألمح إليه ترمب في أكثر من مناسبة؛ أو أن تتراجع القوة الأمريكية أمام الصين وروسيا، وهو ما سيترك بقية دول المنطقة أمام واقع مقلق.
وتواجه طوكيو بالفعل عدة تحديات إقليمية، أبرزها تنامي قوة خصمها التقليدي؛ بكين، التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في بحري الصين الجنوبي والشرقي، حيث يتنازع البلدان السيادة على عدد من الجزر.
وتجمع البلاد وروسيا خلافات مشابهة بشأن جزر “الكوريل” أقصى شمالي اليابان، والتي اتخذت موسكو خطوات لتعزيز السيادة عليها وعسكرتها في الأشهر والسنوات الأخيرة.
وفي السياق ذاته، تواجه طوكيو مخاوف جدية إزاء برنامج كوريا الشمالية النووي، الذي أطلقت بيونغ يانغ في إطاره صواريخ عبرت الأجواء اليابانية العام الماضي.
ورغم توصل ترمب والزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، في قمة تاريخية منتصف 2018، إلى تفاهمات بشأن تلك البرامج النووية والصاروخية، إلا أن دول المنطقة لا تبدو مطمئنة تمامًا، إذ يمكن للاتفاق أن ينهار في أية لحظة، كما حدث مع اتفاقات سابقة.
ليس أكيدًا ما إذا كان الردع والردع المضاد سيقود في النهاية إلى تعزيز أمن اليابان أكثر من الدبلوماسية والارتهان لاتفاقيات الحماية، وتبرز مخاوف من أن يتسبب إلغاء أو تعديل دستور البلاد باشتعال سباق التسلح في المنطقة، بما في ذلك تطوير وإنتاج الأسلحة النووية، سيما أن طوكيو قادرة على تحقيق اختراقات كبيرة في وقت قياسي.
يعيد ذلك إلى الأذهان تاريخ جيش البلاد “الإمبريالي”، الذي احتل أكثر من 5 أضعاف مساحة البلاد الأصلية في أقل من 5 عقود، بين 1895 و1942، بما في ذلك شبه الجزيرة الكورية والفلبين وإندونيسيا وأجزاء من الصين والهند الصينية، وهو التاريخ الذي ما يزال حاضرًا في وعي شعوب المنطقة رغم اعتذار طوكيو مرارًا عن ممارساتها، وانتهاجها “السلام” لعقود.