ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال أن المتابع للشأن الصهيوني منذ تأسيس دولتهم عام 1948م، إلى مرحلة ما يسمى بـ”صفقة القرن” عام 2020م، يدرك جيداً أن هذا الكيان المصطنع يحمل بذور فنائه معه؛ فهو كيان وظيفي غريب عن المنطقة، يعاني من معضلات عديدة تهدد وجوده، ومن أهم هذه المعضلات مشكلة الديمغرافيا، ومشكلة تحقيق الأمن.
وذكرنا أيضا أن اليهود اتخذوا منذ اليوم الأول لاحتلالهم فلسطين حزمة من الإجراءات لضمان أغلبية يهودية ومنع كارثة ديمغرافية -حسب تعبير ألون طال رئيس دائرة السياسات العامة في جامعة تل أبيب، ومؤلف كتاب “الأرض ممتلئة.. معالجة الاكتظاظ السكاني في إسرائيل”- وأشرنا إلى 4 إجراءات من هذه الإجراءات التي اتخذوها، وفي هذه الحلقة نكمل باقي هذه الإجراءات، مثل:
- تنامي الدعوات لترحيل الفلسطينيين: نظرا لتغذية الخوف والكراهية اليهودية تجاه العرب؛ فقد تعالت الأصوات داخل الكيان -خاصة من الساسة الذين ينتمون لتيار اليمين المتطرف- لترحيل العرب عن المناطق المحتلة عام 1948م، بل وطردهم من كل فلسطين، فيما يعرف باسم خطة التهجير “الترانسفير”، ومن أشهر من نادى بذلك الحاخام المتطرف مائير كهانا رئيس حزب (كاخ) المتطرف “الذي خاض الانتخابات ببرنامج انتخابي يفرض فصلا عنصريا صارما، وقوانين عنصرية تجاه العرب، وكان مطلبه الأساس إفراغ البلاد من العرب من خلال الترهيب إذا أمكن، أو باستخدام العنف إذا دعت الضرورة” [1]. ومن دعاة فكرة الترانسفير رحبعام زئيفي مؤسس حركة “موليديت” أي الوطن في عام 1988م، وشغل منصب وزير السياحة في حكومة شارون في فبراير عام 2001م، وقد اغتاله أبطال من فلسطين انتقاما لاغتيال أبي علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أكتوبر 2001م، ودعا زئيفي لغزو الأردن وتوطين الفلسطينيين فيها. ويسرائيل كينيغ، الذي أصدر وثيقة لأصحاب القرار سميت “وثيقة كينيغ” نشرتها صحيفة عل همشمار (الإسرائيلية) في 7/9/1976م، وتنطلق هذه الوثيقة من اعتبار المواطنين العرب أعداء، ويجب التعامل معهم من هذا المنطلق[2]. وقد استند أصحاب هذه الدعوات الذين يتزايد عددهم يوما بعد يوم إلى وجود سوابق دولية، مثل تقسيم الباكستان والهند في عام 1947م وتبادل السكان بينهما. وروّج بعضهم فكرة تبني سياسات تحث العرب (الإسرائيليين) على الهجرة، وتقديم منح دراسية للطلبة العرب (الإسرائيليين) للدراسة في جامعات أجنبية بغية إغرائهم للبقاء خارج فلسطين[3]. ووفقا لأيان س. لوستيك فقد تعاظم الدعم اليهودي لفكرة طرد جماعي للعرب من البلاد عبر العقود القليلة الماضية، ففي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة (بيو) في العامين 2014 و2015م فإن 48% من اليهود الإسرائيليين أيدوا أو أيدوا بشدة عبارة أنه “يجب طرد أو تهجير العرب من (إسرائيل)”[4].
- إقرار قانون القومية للشعب اليهودي: حسم البرلمان (الكنيست الإسرائيلي) جدلا طويلا ثار بين العلمانيين والمتدينين اليهود، بإقرار هذا القانون في تموز/يوليو 2018م، والذي أعلن بموجبه “يهودية الدولة”، لتتجذر الهوية الدينية وتتعمق على حساب الهوية العلمانية الديمقراطية التي تم إقصاؤها بإقرار هذا القانون مرة أخيرة وإلى الأبد، فأصبحت الديمقراطية خاضعة لليهودية وليس العكس. ومن نافلة القول إن إقرار هذا القانون يهدد بشكل أساس شرعية مواطنة العرب (الإسرائيليين) وهم الفلسطينيون الذي لم يخرجوا من أرضهم في حرب عام 1948م، ويجعلهم عرضة للترحيل بحجة أنهم ليسوا يهودا. هذا الصراع الاجتماعي الديني بين المتدينين والعلمانيين من جهة، وبين المكون اليهودي والعربي من جهة أخرى، خلق إشكالية كبيرة في تعريف “اليهودي” و”الإسرائيلي” و”الأمة الإسرائيلية” وتحديد “حقوق المواطنة”، ونتيجة لإقرار هذا القانون ظهر مصطلح جديد يصف حال الحركة الصهيونية المعاصرة وهو “تدين الصهيونية”، وتنامى التحالف بين المتدينين والمستوطنين المتطرفين ضد مؤسسات الدولة التي ما زالت تحتفظ ببعض الطابع العلماني[5].
- تشجيع هجرة غير العرب إلى فلسطين المحتلة وادعاء يهوديتهم: من أجل المحافظة على عدم حصول العرب على الأغلبية الديموغرافية، اتجه اليمين الصهيوني إلى جلب عشرات الآلاف من الأثيوبيين اليهود (الفلاشا) وأولئك الذين ادعوا نسبا لليهود إلى (إسرائيل)، وقام مندوبو الهجرة الصهاينة بمحاولات يائسة لمواجهة التهديد العربي الديمغرافي عن طريق اكتشاف “قبائل منسية” من اليهود أو على الأقل غير عرب، في جنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية والوسطى وجنوب آسيا. وهم بذلك في حال فشلهم بتحقيق الأغلبية اليهودية فإنهم على الأقل يحافظون على حالة (إسرائيل) كدولة “غير عربية”[6].
- قرار الانسحاب من غزة: في عام 1973م أعلنت جولدا مائير أن “قطاع غزة جزء لا يتجزأ من إسرائيل” [7]، وقال نجل أريئيل شارون، غلعاد شارون نقلا عن والده: “إن قيمة مستوطنة نتساريم الواقعة في قلب قطاع غزة تساوي قيمة تل أبيب” [8]. لكن تغيرت قناعاته بعد ذلك بسبب عاملين حسب خبير الجغرافيا السياسية (الإسرائيلي) المعروف أرنون سوفير:
العامل الأول: تجاوز تعداد سكان القطاع المليون ونصف المليون.
والعامل الثاني: كثرة العمليات “الانتحارية” الدموية –حسب قوله- التي ضربت أهدافا مدنية وعسكرية في العمق الإسرائيلي. وكان سوفير قد كتب رسالة لشارون بهذا الأمر في عام 2002م منوها إلى ما سماه “البيانات الديمغرافية الخطيرة”، قال فيها: “أغلب سكان إسرائيل” يعلمون أن هناك حلا واحدا فقط في مواجهة جارنا المجنون والانتحاري، وهو الانفصال، وفي غياب هذا الانفصال كتب سوفير: تكون نهاية الدولة اليهودية[9]. وبالفعل اتخذ شارون قرار الانسحاب من قطاع غزة وبدأ الانسحاب في 15/8/2005م واكتمل في 23/8/2005م،
وتم اتخاذ هذا القرار وتنفيذه من طرف واحد فقط، دون التنسيق مع الطرف الفلسطيني.
مظاهر المشكلة الديمغرافية
مما سبق يتبين لنا أن المشكلة الديمغرافية في دولة الكيان الصهيوني وعلى الرغم من الإجراءات التي تم اتخذاها من الحكومات (الإسرائيلية) المتعاقبة للحد من خطرها، ما زالت تشكل خطرا على مستقبل هذه الدولة المصطنعة، ويؤكد ذلك ما يأتي:
- تنامي الهجرة العكسية: على الرغم من تيسير التشريعات المتعلقة بالهجرة ومنح الجنسية “الإسرائيلية” ليهود الشتات لضمان تدفق بشري يهودي إلى “إسرائيل” إلا أن ذلك أصبح بلا جدوى كبيرة نظرا لتنامي الهجرة العكسية، من “إسرائيل” إلى خارجها، يقول ألون طال رئيس دائرة السياسات العامة في جامعة تل أبيب: “ومن المؤكد اليوم أن الهجرة باتت تمثل قوة ديمغرافية ليس لها شأن، بالنظر إلى أن أعداد اليهود الذين يصلون إلى إسرائيل تماثل أعداد من يغادرون منهم، حيث يبلغ متوسط تعدادهم 24 ألف مهاجر في السنة”[10]. وحسب معلومات مراكز الإحصاء في (إسرائيل) فإن العام 2004م كان عام بداية الهجرة العكسية حيث غادر فيه أكثر من 16500 (إسرائيلي) أغلبهم من ذوي الاختصاصات العالية ممن يبحثون عن فرص عمل أفضل، وأمكنة أكثر استقرارا للعيش، فيما وصف عام 2007م بعام نزف الهجرة العكسية من حيث أعداد المهاجرين ونوعياتهم، فقد طال هذه المرة يهود جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وبلغ عدد متقدمي طلبات التنازل عن الجنسية “الإسرائيلية” والاستعداد الجدي لمغادرة البلاد 755 ألف “إسرائيلي” بحسب معلومات وزارة الداخلية “الإسرائيلية”، واعتبرت حكومة الاحتلال الأمر بمثابة زلزال يهدد الكيان “الإسرائيلي” أكثر من أيّ تهديد أمني وعسكري آخر، بما في ذلك سلاح القنبلة النووية. وفي استطلاع للرأي نشرته صحيفة معاريف (الإسرائيلية) عام 2007م أعده معهد “تلي سيكر”، أظهر أن حوالي 26.14% من (الإسرائيليين) لديهم الرغبة في الهجرة إلى الولايات المتحدة أو أي دولة أوروبية غنية. وجاء في الاستطلاع نفسه، والذي شارك فيه حوالى 7 آلاف إسرائيلي أن 96.3% منهم ليسوا مقتنعين كلياً بالقيادة السياسية في إسرائيل ووعودها الغامضة والخطرة [11].
ويمكن حصر أسباب الهجرة العكسية فيما يأتي[12]:
- تردي الوضع الاقتصادي: الرغبة بتحسين الدخل والبحث عن فرص عمل أفضل، كان من أهم أسباب الهجرة العكسية، فنتيجة لتردي الوضع الاقتصادي اضطر بعض الأطباء والمهندسين الروس إلى أن يشتغلوا عمال نظافة! ومن أصل مليون وربع المليون يهودي روسي وسوفيتي سابق هاجر نحو 950 ألف كانوا قد أقاموا في (إسرائيل) مدة لا تقل عن 10 سنوات.
- تنامي الهاجس الأمني: فقد أعرب 29% من المستطلعين المذكورين عن تراجع السياسة الإستراتيجية الواثقة في “إسرائيل”؛ وقال 17% منهم إن هناك خشية بالغة من تدهور الأوضاع الأمنية على نحو واسع في (إسرائيل).
- انتهاج سياسة اللامساواة بين اليهود أنفسهم: فقد اضطر 52% من إجمالي 20 ألف من يهود الفلاشا الأثيوبيين للعودة إلى أثيوبيا بعدما عانوا من سياسة التهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في (إسرائيل). وثمة يهود شرقيون آسيويون جاؤوا من الهند، يسمّون “يهود الميزوس”، وفدوا “أرض الميعاد”، أو “الجنّة الموعودة” منذ أكثر من عشر سنوات، ولكن أملهم خاب بهذه “الجنة”، فقرّروا العودة ثانية إلى بلادهم الأصلية؛ وبلغ عدد المغادرين منهم حوالى900 من أصل 1200 وقد واجه هؤلاء في (إسرائيل) معاملة عنصرية دونية، حيث سُدّت في وجوههم آفاق العمل الكريم والمنتج، كما عانوا من الفرز الديني الطائفي، إذ اعتبرت يهوديتهم ناقصة ومشكوك بها.
- زيادة الخصوبة عند العرب: وفي هذا السياق يقول ألون طال: “حتى عندما كانت الهجرة اليهودية تضم عددا أكبر بكثير من الموجات البشرية، كان تعداد العرب في المجتمع الإسرائيلي يشهد زيادة ثابتة ومطردة، بفضل ارتفاع معدلات الخصوبة في أوساطهم، وكانت مستويات القلق بين صفوف الزعماء اليهود تزيد مع هذه الزيادة، فقد شكلت الديمغرافيا لغزا يثير الحيرة والقلق في نظر الساسة الصهاينة”[13]. إلا أن هذا العامل انخفض أثره في الآونة الأخيرة نتيجة لتراجع نسبة الخصوبة عند العربيات وارتفاعها عند اليهوديات، فقد وصل معدل خصوبة اليهوديات الحريديات (المتدينات) إلى 7 أطفال للمرأة الواحدة وهو في تراجع، مقابل 2.2 لليهودية العلمانية وتشكل النساء العلمانيات نسبة 40% من النساء، و3 أطفال للمرأة العربية في (إسرائيل) بعد أن كان 8.4 عام 1974م، و7.2 في عام 1979م. وفي عام 2018م بلغ معدل الخصوبة للمرأة العربية داخل (إسرائيل) إلى 3.1 مقابل 3.18 للمرأة اليهودية ليرتفع للمرة الأولى عن معدل المرأة العربية. وجدير بالذكر أن هذه الحسابات لا تتضمن الفلسطينيين المقيمين في الضفة والقطاع، فقد سجل قطاع غزة أعلى معدل ليصل إلى 4.2 طفل لكل أسرة[14].
____________________________________________________________________
[1] إيان س. لوستيك، الارتباط المصيري ما بين إسرائيل والمعضلة الديمغرافية، مجلة قضايا إسرائيلية، العدد 71، ص12.
[2] انظر: غازي الغازي، وثيقة كينيغ 1976 التاريخ الذي لم ينته بعد، موقع ترابط في شبكة الإنترنت، http://www.tarabut.info/ar/articles/article/koenig-report-1976/ .
[3] انظر: المصدر السابق ص48.
[4] إيان س. لوستيك، مصدر سابق، ص13.
[5] انظر: عبدالغني سلامة، إسرائيل والصراع على هوية الدولة والمجتمع، مجلة قضايا إسرائيلية، العدد 72، ص93.
[6] انظر: إيان س. لوستيك، مصدر سابق، ص14.
[7] إيان س. لوستيك، مصدر سابق، ص14.
[8] لقاء مطول مع مكور ريشون ترجمته عربي 21، https://arabi21.com/story/1146492/%D9%86%D8%AC%D9%84-%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%84%D8%AA%D8%AA%D8%AE%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D9%82%D8%A7%D8%A1%D9%86%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%85%D8%B9-%D8%B4%D8%A8%D9%83%D8%A9-%D8%A3%D9%86%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85 .
[9] إيان س. لوستيك، مصدر سابق، ص14.
[10] ألون طال، مصدر سابق، ص48.
[11] انظر: نشرة أفق، نشرة شهرية تصدر عن مؤسسة الفكر العربي، https://arabthought.org/en/researchcenter/ofoqelectronic-article-details?id=141&urlTitle=%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%83%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84
[12] المصدر السابق.
[13] ألون طال، مصدر سابق، ص48.
[14] انظر: ألون طال، مصدر سابق، ص49-51. وموقع عرب 48، معدل الخصوبة تراجع لدى العربيات وارتفاع لدى اليهوديات، نشر في 16/1/2019م.
(*) عضو هيئة علماء فلسطين بالخارج.