أعلنتْ زوجته بعد عدة سنوات قاربت العشر أنها لا تُطيق مجرد أن تراه؛ وضاقت نفسها بالبيت الواسع والأجهزة الحديثة التي جمعاها معًا على مدار أكثر من عقد من عمرها وعمره.
ظن في البداية أنها تمزح أو أن مرضًا ما أصابها، فعرضها على الأطباء، ثم أعادها إلى أهلها وصبر عليها قليلًا؛ ثم أدخل رجالًا ونساء صالحين وصالحات لها ولأهلها رغبة في الإصلاح؛ وفي النهاية جاءه الرد حاسمًا ومتكررًا:
– إنها لا تريدك.. وليس هناك رجل بديل لك أو خيانة -والعياذ بالله- في الأمر؛ فقط الحل الأكرم لك أن تطلقها والسلام!
سأل في قسوة وتأنيب عن الآمال والأحلام بل الذكريات والأفراح والأتراح؛ فتأثر القوم بل كادوا يبكون، ثم كرروا نفس الكلمات ومضوا عنه وتركوه في بيته وحيدًا مُطالبًا بنقضه وهدمه ووداع صاحبته؛ وحتى لحظة إلقائه “يمين الطلاق” عليها انتظر منها أن تتراجع فما فعلت.. فدمعتْ عيناه.
ويومًا بعد آخر صار يسأل الناس حتى في الشوارع المحيطة ببيته الفارغ عن سبب غدر زوجته وتفلتها من البيت ومنه!
وفي قصة أخرى:
كانت العائلة تعيش متجاورة في هناء وسعادة؛ أخوان كبيران في السن يقيمان في فيلا واحدة مع استقلالية تحفظ حق الأبناء في الخصوصية؛ وعلى حين غفلة تُوفي الأخ الأكبر، وبعد أيام قليلة طرد الأخ الأصغر أبناء إخوته إلى الشارع ووضع يداه على إرث أخيه مطالبًا أبناءه بالبحث في المحاكم عن حل.
وعبثًا حاول المخلصون التدخل، وكان رفض “العم” حاسمًا وقاطعًا؛ حتى مع وجود أكابر البلدة علمًا وحلمًا وصبرًا؛ وفي النهاية قال أكبرهم لأبناء الأخ المُتوفى:
– عمكم هذا لا حل معه والمحاكم حبالها ستطول ولكن لدي حل سينهي القضية في أقرب وقت أدعوا الله عليه، وسترون بإذن الله قريبًا.
وتحققت بشارة الرجل الصالح فأصيب “العم” بالسوق في مشاجرة برصاصة خطأ في اليوم التالي؛ وورثه أبناء أخيه بدلًا من أن يرثهم.
وفي قصة أخيرة:
ربى أبناءه فأحسن تربيتهم لكن مع وجود حدة لا تخطئها العين في طبعه؛ وحرص على فعل الصواب والتقليل من الأخطاء؛ ربما ارتفع صوته على أبنائه بعد أن كبروا مرات دون أن ينتبه، ربما بخل وقطر عليهم في المال حفاظًا عليه لهم، ولكنه لم يصدق أنهم استطاعوا في غفلة منه المضي في إجراءات قانونية معقدة؛ منتهزين سفره داخل البلاد الدائم بعد خروجه إلى المعاش؛ فاستطاعوا أن “يحجروا” عليه بل يودعوه دارًا للمسنين، سأل طويلًا في البدايات، حيث الأيام الطويلة والليالي المريرة:
– لماذا؟
ثم استكان وارتاح فصمت ورفض أن يلقى أحدًا من أبنائه!
في القصص الثلاث الماضية؛ وفي أخرى أقل عنفوانًا أو أفدح في الخسارة المعنوية قبل المادية في جميع الحالات تتساءل النفس البشرية في مرارة:
– لماذا يخون بعض البشر وينقلبون على بعضهم؟
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَتْ فِي النِّسَاءِ” (رواه مسلم).
والنفس البشرية التي تهوى الافتتان بما تراه وتعهده؛ فتأنس إليه، وتتمثل طول أمده وعدم انقضاء زمانه؛ تلك النفس لا تظن أن هذه الدنيا فانية أو أنها مفارقة لها، ورغم وفاة الأحباب والأصدقاء والجيران وغيرهم أمام أعيننا كل حين إلا أن حب الدنيا داء مستوطن في النفوس، ورغم قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20).
ورغم تكرار معنى الآية الكريمة في مواضع من القرآن الكريم فإن الأنفس المتفلتة المحبة للدنيا تجد في وسوسة الشيطان خير معين لها للاستئثار بخير الدار الفانية؛ ومن هنا تتولد الشرور وينمو الغدر في النفوس المريضة المحبة للمال والصحة والمتع والملذات؛ وتبدو الشرور في أقرب موقف فيه ضعف لأصحاب هذه النفوس المريضة، ولو كان الضعف أو المرض أو كبر السن لمقرب أثير -عم أو خال أو حتى أب أو أم- فإنما النفوس المريضة تريد فحسب الاستئثار بالخير لا أكثر.
ويزين الشيطان ورفقة السوء غالبًا لأصحاب تلك النفوس الإطاحة والغدر بل أكل حقوق أصدقاء ومقربي الأمس؛ وفي سبيل ذلك تترى الحجج والأعذار الواهية كخيوط العنكبوت داخل تلك النفوس!
يبقى الدين وحده عاصمًا من تفلت النفوس وغدرها وإطاحتها بمحبوبيها من قبل، ولذلك قال الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن بناء الأسرة المسلمة الذي يدوم لعقود طويلة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ” (رواه الشيخان).
وقال الله تعالى عن الإخلاء والأصدقاء في الحياة الدنيا لما يلقونه تعالى في الآخرة: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67).
إن العلاقة المبنية على أسس صحيحة من الدين وتقوى الله هي العلاقة الصلبة النافذة الصحيحة التي تحمي المسلم، بعد الأخذ بالأسباب والتسليم من قبلها لرب العزة، وإن بناء العلاقات الاجتماعية ومراعاة الله في الآخرين في العلاقات الخاصة بالمال والصداقة والعمل هو العاصم من غدر وتلون بعض نفوس البشر.
ومن بعد ذلك ومن قبله علينا عدم الركون إلى الدنيا أو التمسك بمتاع من متاعها مهما حدث فالبشر في جميع الأحوال سيفارقوننا أو أن أحدنا مفارقهم!