كانت ليلة سعيدة تلك التي التقيت فيها بصديقي الفنان الذي لم أره منذ خمسة وعشرين عاما، جمعنا حب فن الخط العربي الذي أهواه وأعشقه، ويحترفه صديقي ويعلَم بواطن أسراره، وبعد أن تبادلنا تباريح الغرام والذكريات، انعطف بنا الحديث نحو فن الخط العربي.
قلت لصديقي إنني لم أتعلق بفن الخط العربي إلا مع أول زيارة لي لمدينة “إسطنبول” منذ نحو عشرين عاما، بعد أن تجاوزت الخامسة والثلاثين من عمري، حيث وجدتني منجذبا دون إرادة مني ودون سابق إصرار وتدبير للآثار التي تقع عليها عيني في إسطنبول التاريخية، وجدت روحي منجذبة خلف بصري المخطوف من جمال تشكيلات لوحات الخط العربي على واجهات وداخل الأبنية التاريخية من مساجد وقصور ومتاحف وأسبلة في الشوارع، بل وعلى شواهد القبور، أشد ما لفت نظري بريق الخطوط المذهبة على خلفية خضراء، كنت أسبح في عالم من المتعة والجمال والخيال، كنت كأنني أرى لوحات فن الخط العربي لأول مرة.
قاطعني صديقي وعاتبني بأن بلادنا العربية تذخر بتحف لا نظير لها من هذا الفن، وقال إن “القاهرة” تذخر بكنوز تفوق ما في إسطنبول؛ فهي أقدم منها زمنا حيث تمتد عمقا لأكثر من ألف ومئتي عام، بينما عمر “إسطنبول” الإسلامية نحو ستمائة عام، وآثار القاهرة الإسلامية أكثر غنى وتنوعا كونها تَتابَع عليها الفاطميون القادمون من المغرب العربي، والأيوبيون القادمون من الشرق العربي، والمماليك ثم العثمانيون القادمون من آسيا الوسطى، ولكل منهم طابعه الفني والمعماري الذي امتزج مع البيئة المصرية وأنتج فنا يميزه.
ثم استطرد متسائلاً: كيف لم يلفتك كل هذا الغنى والتنوع إلى فن العمارة والخط والزخرفة، والتفت إليه فقط مع أول زيارة لك لإسطنبول؟!
قلت له: أشاركك في كل حرف من حروف كلماتك، ولكني حين كنت أزور القاهرة كنت أرى تلك الآثار العظيمة باهتة خلف أكوام الأتربة التي تعلوها، ومتصدعة من الإهمال، ومتآكلة من آثار الرطوبة، ومغمورة وسط الأبنية المهترئة المحيطة به، ومختفية خلف البضائع التي علقها الباعة المتجولون على جدرانها، وأكوام القمامة الملقاة بجوارها، لذلك لم تترك في نفسي الأثر الذي تركته آثار إسطنبول.
هنا بدأنا نلتقي ونستكمل حديثنا في خط واحد، فالفن والتراث وكل ما هو جميل في بلادنا يسير في خط بياني واضح الانحدار، تستطيع أن ترصده في كل عنوان لأي فن من الفنون (أو: من “أم كلثوم” إلى “حمو بيكا”).
وبرغم أن آثار القاهرة الإسلامية بدأت الدولة تلتفت لتحسينها مع نهاية التسعينيات من القرن العشرين، وبدأت بالفعل صورتها تتحسن عما كانت عليه، إلا أن فن الخط العربي نفسه يسير في انحدار شديد؛ فبعد أن كانت بلادنا تذخر بكبار الخطاطين، الذين كانت لهم مكانتهم في الوسط الفني، وكانت المجلات تنتقي كبار الخطاطين ليكتبوا لها عناوين الصحف، ودور النشر تنتقي كبارهم ليكتبوا عناوين الكتب، وبعد أن كانت حصة الخط العربي من المناهج المقررة والمعتبرة في مناهج التعليم، وبعد أن كانت معظم مدن مصر بها مدارس تحسين الخطوط.. بدأ كل هذا تدريجيا بالزوال، ولولا عناية الله والمحبة والعشق الذي زرعه في قلوب محبي هذا الفن العظيم لانقرض تماما من بلادنا، ولكن ما زال هناك عشاق لهذا الفن يمارسونه ويورثونه لتلاميذهم، ورغم رفض الدولة محاولاتهم لعمل نقابة خاصة للخطاطين، وبرغم زوايا النسيان والإهمال التي يعانونها؛ فما زالت بلادنا العربية تذخر بفناني الخط العربي الذين يتبوأون المراكز الأولى في مسابقات الخط العربي التي تتبناها في الغالب تركيا وإيران.
تنهدت أنا وصديقي ونحن نتفق على غنى بلادنا وثرائها بآثارها وفنانيها ومبدعيها، ولكننا كالتاجر الذي لا يدرك قيمة بضاعته، ولا يحافظ عليها، ويعرض جواهره في غلاف من قشّ!