لا شك، أيها القارئ الكريم، ولا يخفى، أن الوطن له مكانته في دين الإسلام العظيم، وفي الفطرة الإنسانية طبيعة؛ فلذلك أمر الدين بالدفاع عن الوطن والذود عن مكتسباته، وأملاك القائمين عليه وفيه مادياً ومعنوياً.
لنذكر هنا وفي بدايات سطورنا يوم هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة، وهي خير بداية نبدأ بها أو فيما قاله يومها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقف عليه الصلاة والسلام ينظر إلى مكة المكرمة حزيناً ليقول: “والله إنك أحب بلاد الله تعالى إلى الله وإلى نفسي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”.
حب الأوطان فطرة يجب غرسها في الناشئة بشكلها الصحيح منذ البدايات، الطفولة والمراهقة، والنضوج والكهولة، والعمل على تأصيل هذا الحب والولاء في منح الحريات، ومنح الفرص للجميع لظهور القدرات والمواهب، وعدم كبتها وتقييدها، وعدم إطلاقها بلا قيد أو منطق عقلي مقنن يميز بين الولاء والنفاق! والشجاعة الرعونة، والكرم والتبذير، والحرية والفوضى، وألا يغلب الولاء للأرض بأي شكل من الأشكال أخوة الإسلام في الله تعالى.
نعم، فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير البقاع والأراضين إلا طلباً للحرية، نعم الحرية من أجل بيان المنهج من خلالها -الحرية- وإظهار الدين والتوحيد، وبيان الولاء والبراء لله تعالى من غير منغصات وأسباب تمنعه في بيان ذلك بدقة وتفصيل، فمهما ارتقى الفكر والعلم مع عدم الحرية فهو لا شيء.
أما قول “حب الوطن أو الأوطان من الإيمان”، فهو من الكذب ولا دليل على صحته البتة، حب الأوطان فطرة وجبلّة في الإنسان، بل وحتى غير الإنسان من المخلوقات، وهذا أيضاً يحقق ويؤكد هذه الفطرة الجِبِلّية، يحب المخلوق أن يحمي وطنه وأرضه، مدافعاً عنها من الغبن والاعتداء والسرقة والفوضى، وأيضاً يحق له أن يكون حامياً لها من سوء السيئين المنافقين وبيان عوارهم، وسوء الإدارة وما شابه ذلك من إساءة للأوطان، ويحق للإنسان أن يبتكر الآليات للحياة بكل جوانبها بشكل أفضل، التي من خلالها -الآليات- يحافظ بها على وطنه ورفاهيته وتطوره، والمحافظة على أرضه وعرضه.
فحب الأوطان له العديد من الصور، فمنها المحافظة على نظافته، والحرص على نشر السلوك القويم داخلة، والعمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والالتزام بتطبيق القانون من غير تمييز، فالكل أمام القانون سواسية كأسنان المشط.
مع هذا الحب للأرض والوطن إلا أن محبته لا ينبغي لها أن تغلب ما يحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالحب له لا تعني أن تغلب هذه المحبة حب الدين والعقيدة والولاء لله تعالى، وهذا ديدن العقلاء وأتباع الأنبياء، ولقد ضرب الله للإنسان مثلاً في أحب البقاع إليه مكة المكرمة، وأحب الخلائق إليه وأرفعهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهجرته من أحب البقاع إلى الله تعالى وإلى نفسه، وكما ذكرنا سالفاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وطنه وأرضه التي ولد فيها ونشأ مكة المكرمة، مكة خير البقاع والأراضي، ولا يشك مسلم في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم من أجل الحرية لتقديم الولاء والبراء لله تعالى، والعمل بحرية في تبليغ الدعوة إلى الله تعالى، قال يوم الهجرة: “ما أطيبك من بلد وما أحبّك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك”!
وماذا قال صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينة؟ قال داعياً الله عز وجل أن يحببه في وطنه الجديد، فاستجاب له ربه عز وجل، وقال صلى الله عليه وسلم بعد حين قولته الشهيرة: “إنه لا يختار إلا المدينة وأهلها”، واستقر فيها ونشر الدين منطلقاً منها، بل ودفن جسده الطاهر فيها، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ويجب أن نعلم أن الأرض والوطن حبهم فطرة وجبلة للإنسان كانت أو غيره من المخلوقات، وهناك مقولات جميلة في ذلك، نذكر منها ما قاله الغزالي، رحمه الله تعالى: “والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفراً مستوحشاً، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص”، ولا تعني كلمة وطن في فهم العقلاء أتباع الأنبياء المعنى المحدود الذي لا يتعدى معنى واحداً ضيقاً، ولا يعنى الحدود الجغرافية لحدود إقليم من الذي تتفق عليه مجموعة من الناس، إنه موقع وطن لإقامتهم واستقرارهم، بل هناك معنى آخر أكبر وأعظم يحبه الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والمعني به أرض الله تعالى التي فيها دين الإسلام، وهذا أيضاً لا ينفي حب الأرض المحددة التي نشأ عليها الإنسان وترعرع فيها.
حاولت أن أقرب بين حب الوطن والدين، وأبين الأولوية لمن والأصل لمن ما استطعت، وأختم بمقولة لشيخ المجاهدين عمر المختار، رحمه الله تعالى، في الجهاد والذود عن الأوطان يقول: “قتالنا ليس قتال بندقية، بل هو قتال عقيدة، وما تسلط الطليان علينا إلا لأننا تركنا تعاليم قرآننا”.
فبتركه -القرآن- يضيع كل شيء؛ تضيع الكرامة والمروءة والرجولة، والولاء والبراء الحق والمصداقية، والدنيا والآخرة والأوطان.