مقدمة:
صدمة كبيرة شكلها الموقف المغربي إبان إعلانه عن نيته توقيع اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، وردود فعل قوية خاصة من إخواننا في المشرق العربي وبالخصوص الحركة الإسلامية بكل أطيافها وخاصة جماعة الإخوان المسلمين بجميع تفريعاتها.
ولعل الهجوم الذي يمكن وصفه بالحاد والعنيف الذي وجه لحزب العدالة والتنمية وقدر القنوات التي تناولت ما وقع فيه الحزب إثر توقيع أمينه العام ورئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني يدلل على مدى الصدمة ومحاولة الفهم، لما، وكيف وقع هذا.
نحن في هذا المقال سنعمل وضع الأصبع على كثير من الغموض وسوء الفهم الذي أدى في حقيقة الأمر إلى هذه المخرجات.
الإسقاط الخطأ أو بداية سوء الفهم:
لن نرجع إلى ظروف وملابسات نشوء حزب العدالة والتنمية الذي خرج من رحم حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية التي كان أمينها العام د. عبدالكريم الخطيب يرحمه الله، وهو كذلك كان في الوقت نفسه بعد تأسيس حزب العدالة أول أمين عام للحزب.
لن نعود إلى هذه الظروف مع اعتقادي الشديد أن أي باحث ومتابع لمسار حزب العدالة والتنمية لم يرجع للوقوف مع اللحظات التأسيسية للحزب، وكيف تمت، ومن كان المهندس والمحاور الرئيس من طرف الدولة مع قيادات حركة التوحيد والإصلاح ووفق أي منهجية كانت تتم الحوارات، وماذا كان أفقها، هذه اللحظة المفصلية دون إدراكها ومعرفتها وتفكيكها سوف تجعلنا دائماً نعيد نفس الخطأ في الحديث عن حزب العدالة والتنمية.
ليس دوري هو أن أقوم بكشف هذا المسار وليس الهدف من هذه المقالة هو التأريخ لذلك، لكن الهدف من إثارة هذه النقطة أو التأكيد عليها أمر له أهمية كبيرة في التقييم أو بناء الأحكام، وذلك حتى نخرج من السقوط في القراءة الجزئية عوض النظرة الكلية أو الوقوف مع اللحظة الآنية دون العمل على ربط هذه اللحظة بالمسار الكلي.
هذه ملاحظة منهجية أظن بأنها واحدة من الأسباب التي تجعلنا في كثير من الأحيان نسقط في سوء الفهم أو نصدر أحكامًا تكون ممزوجة بالحسرة والحيرة.
العاطفة المجنحة:
يغلب علينا نحن معشر الإسلاميين العاطفة المجنحة التي تجعلنا نتفاعل في كثير من الأحيان بمنطق الحماسة والخطاب العنتري، وعندها يغيب العقل والنظر والفحص لكثير من قضايانا، فكل الإسلاميين الذين غضبوا اليوم وهاجوا وماجوا مما فعله حزب العدالة والتنمية المغربي اليوم لدرجة من وصمهم أو وصفهم بالحزب المتصهين، وهذا وصف لا يدل إلا على مدى الرجة التي أصيب بها الدماغ وهو يحاول فك هذه الشفرة -توقيع قيادي إسلامي على مرسوم التطبيع مع الكيان الصهيوني، بل اعتبار التطبيع خادمًا للقضية الفلسطينية- لذلك إعلان البراءة أمام الله من الموقع وحزبه.
كل هذا الطيف كان يصفق للحزب ويثمن حنكته وبصيرته وتجربته إبان “الربيع العربي”، وكان يعتبر أي صوت يحاول أن يوضح وينبه إلى أن الأمر ليس كما تظنون، وأن المسار غير سليم، وأن الحزب (حزب العدالة والتنمية المغربي)، وضع يده في يد الاستبداد لإفشال مطالب التغيير الجوهرية التي تحرك من أجلها الشارع المغربي إبان حراك 20 فبراير 2011م، بل إن الكثير أو لعلي أقول جلهم كانوا يصفون أن تجربة الحزب الإسلامي في المغرب هي من أنجح التجارب على مستوى الوطن العربي، ولذلك فكل منتقد إنما هو أحد طرفين؛ إما طرف يزايد على التجربة فقط، أو طرف يريد إجهاض هذه التجربة النموذجية.
ولعل هذه الصدمة اليوم ينبغي أن تدفع بالإسلاميين إلى أن يطببوا أنفسهم من هذا الداء العضال، داء العاطفة الجانحة الذي كان ولا يزال سببًا في الكثير من مشكلاتنا وأخطائنا.
شعار الإصلاح من الداخل:
كيف تنطلي هذه الكذبة على عموم السياسيين، أم أن جزءاً من هؤلاء كانوا حلقة في الترويج لهذه الأكذوبة، لدرجة أن جزءاً من الإسلاميين تبنى هذه الأطروحة وأصبح ينظر لها ويسوق لها؟! كيف نقفز على واقع طبيعة الحكم المستبد، بل الحكم المطلق، عندما يغيب عنك أو تغيب عن وعيك وإدراكك طبيعة بنية النظام السياسي الذي تعيش في قبضته وتحت سلطانه؟
إن الحديث عن الإصلاح من الداخل مع القفز عن إدراك بنية النظام الذي تتحرك في إطاره كان الخطأ الجسيم الأولي الذي وقع فيه حزب العدالة والتنمية المغربي، بل جعله يقدم صورة مزيفة عن هذه البنية.
إننا عندما نثير النقاش مرة أخرى حول هذه الإشكالية التي عانت منها الكثير من الحركات الإسلامية، بل إن بعضها تشكلت عنه قناعة بأكذوبة وعدم واقعية هذا الشعار بعد تجربة عميقة وخلاصات مرة ومريرة.
أعود لأزيد هذا الأمر تأكيدًا، أن عدم معرفة بنية طبيعة الدولة أو النظام المغربي من خلال الدراسة العميقة، بما تحمله من معنى سوف يبقى السؤال عنده مطروحًا، لماذا أقدم حزب العدالة والتنمية المغربي على هذه الخطوة الخطيرة؟
وهذا باب سوف يتطلب وقفة دقيقة وعميقة حتى نصل إلى الإجابة عن السؤال العريض: كيف وقع حزب إسلامي على التطبيع مع الكيان الصهيوني بل والدفاع عن ذلك؟
الحزب الإسلامي:
تحدثنا في المقدمة عن أساسيات كان لا بد منها لكل من أراد أن يستوعب ما حدث فيما يتعلق بتوقيع حزب العدالة والتنمية على وثيقة التطبيع المغربي الصهيوني، والوقوف مع شخصية سعد الدين العثماني، أو بمعنى آخر قراءة ما قام به العثماني وربط ما قام به من توقيع بشخصه، وأنا لا أقصد عدم تحمله جزءاً من المسؤولية، لكن لا يمكن الفصل بين الشخص وبين أنه الأمين العام للحزب الذي أهَّله ليكون في منصب رئيس الحكومة المغربية.
لنعد الآن إلى موضوع الحزب الإسلامي؛ لأن هذه النقطة كانت جزءاً من كل الغضب الذي صاحب التوقيع، وهنا نقف مع السؤال المحوري: هل حزب العدالة والتنمية حزب إسلامي؟
مغالطة كبيرة تلك التي نقع فيها عندما ننطلق من هذا التوصيف، بل نعتبره صحيحًا سليمًا، ومن ثم نطلق العنان لخيالنا وتصوراتنا، حتى إذا وقع ما وقع كما الحال في هذه النازلة يصعقنا ذلك.
والخطأ الأكبر هو عندما نقف مع هذه الجملة في النظام الأساسي للحزب “حزب ذو مرجعية إسلامية”؛ فتصبح هذه الجملة هي الحجة والدليل على فهمنا، لنأخذ مثالين علَّنا نستفيق من هذا الوهم وربما نفتح النقاش العميق حول هذا المسمى “الحزب الإسلامي”.
وسوف نعتمد في ذلك على مقدمتين من القانون الأساسي لكل من حزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب الاستقلال المغربي.
جاء في تعريف حزب العدالة والتنمية من خلال ورقة نظامه الأساسي ما يلي:
“حزب العدالة والتنمية حزب سياسي وطني يسعى، انطلاقاً من المرجعية الإسلامية وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديمقراطي، ومزدهر ومتكافل، مغرب معتز بأصالته التاريخية ومسهم إيجابيًا في مسيرة الحضارة الإنسانية.. ويعمل حزب العدالة والتنمية على تأطير المواطنين والمشاركة في تدبير الشأن العام وترسيخ قيم الاستقامة والحرية والمسؤولية والعدالة والتكافل، وذلك من خلال منهج سياسي مرتكز على الالتزام والشفافية والتدرج وإشراك المواطنين والتعاون مع مختلف الفاعلين، ساعيًا إلى تمثل ذلك من خلال ممارسته اليومية وبرامجه النضالية، وواضعًا المصالح الوطنية العليا فوق كل اعتبار”.
وفي ورقة النظام الأساسي لحزب الاستقلال نجد التالي: “تقوم أهداف حزب الاستقلال على التشبث المتواصل بالقيم والمبادئ التالية:
– تعاليم الإسلام، المحفوظة بلغة القرآن، والداعي إلى الشورى بين الناس، وإلى التكافل والتضامن بينهم.. التعادلية الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى صيانة كرامة المواطن، وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان تكافئ الفرص من أجل تحقيق تطلعات الشعب المغربي نحو النماء والتقدم..”.
وإذا رجعنا إلى حزب النهضة والفضيلة المغربي سوف نجد كذلك نفس التعريف والتأكيد على المرجعية الإسلامية، وكذا حزب الحركة الشعبية، وهكذا.
فمَنْ مِنْ هذه الأحزاب وكلها يعتمد كلمة “المرجعية الإسلامية” سوف نصنفه ضمن دائرة الحزب الإسلامي؟ هل تعتبر هذه الكلمة كافية لوصف الحزب بأنه إسلامي؟ أم لأن وجوه حزب العدالة والتنمية باعتبارها كانت من رموز حركة التوحيد الإسلامية والعمل الإسلامي يعطي الحزب تلك الصفة؟ التي هو ينفيها عنه مرارًا وتكرارًا ويمكن الرجوع إلى كثير من حوارات عبدالإله بنكيران، الأمين العام السابق للحزب، الذي أكد أن الحزب لا ينبغي تصنيفه ضمن الحزب الإسلامي.
هناك إذن إشكالية أوقع الكثير من الإسلاميين أنفسهم فيها، مغالطة كبيرة رتبوا عليها استنتاجات وخلاصات، لعل أكبرها الدعوة إلى محاكاة تجربة الإسلاميين في المغرب، وتجربة العدالة والتنمية الإسلامي بالمغرب، والنموذج المغربي، وقل ما شئت من العبارات والتوصيفات.
حزب العدالة والتنمية واحد من الأحزاب السلطانية، ولا مجال للمساومة أو المجاملة في هذا المجال، إذ إن هذه المجاملات هي التي أدت إلى جزء من المشكلات، وقد قلت سابقًا: العاطفة المجنحة خبال.
وهذا يقودنا إلى نقطة دقيقة ومفصلية: ما شروط العمل السياسي داخل بنية النظام المغربي؟
سبق أن قلت: إنه من دون فهم هذه النقطة لأنها المنطلق المحوري في أي تحليل للمشهد السياسي المغربي، وكل من ليس له إلمام بهذا الأمر فإني أدعوه إلى البحث الدقيق والفهم العميق والسؤال قبل أن ينطلق في استخلاص استنتاجات، أو أن يدخل في مساحة تحليل المشهد السياسي المغربي لا لشيء، سوى أنه سيكون مجانبًا للحقيقة، أو أنه سيكون صدى صوت للخطاب الرسمي دون شعور منه.
– التنازل عن المبادئ والقناعات:
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون جزءاً من المنظومة السياسية تنعم بالرضا والقبول بدون هذا الشرط، قد يبدو للكثيرين أن هذا الكلام هو مبالغة كبيرة، وقد يحاول أن يأتي بأمثلة من هنا وهناك، نقول له: ما زال أمامك مع كل احترامي وتقديري الكثير لكي تفهم كيف تشتغل الدولة في تأثيث المشهد السياسي، إنك أمام نظام عريق وصاحب تجربة كبيرة في الترويض قد لا تخطر لك على بال، وله حنكة كبيرة في تلميع صورته الخارجية بطريقة لا يمكن لأي نظام أن يجاري فيها الدولة المغربية.
تأثيث المشهد السياسي وفتح قوس “حرية الرأي والتعبير” هذه الصنعة الدقيقة هي التي تخلط أوراق الكثير فيدخل في سجال ونقاش دون مفاتيح.
– الولاء للسلطة ولا شيء غير السلطة:
عندما تصبح السلطة هي الدولة والدولة هي السلطة والسلطة فوق الدولة وأنت كطرف سياسي تريد أن تصبح نسيجًا ضمن هذه المنظومة، فإن هذا المنطلق لا فكاك منه، دون ذلك أنت خارج النسق أو جزء من تأثيث المشهد السياسي، لكن أن تنال تمام الرضا وتفتح أمامك الأبواب كلها، فإن تقديم فروض الطاعة الكاملة للسلطة لا فكاك عنه، ولذلك فالحزب عندما يدخل في هذا النسق تكون هذه من الواضحات التي ينبغي أن يعبر عنها في الواقع العملي؛ لأنه سوف يوضع تحت الكثير من الاختبارات ليعلم أن الأمر جد، وأنه ليس هناك خيار إلا هذا الخيار، وحزب العدالة والتنمية يعرف جيدًا حجم الاختبارات التي أجريت له ليستوعب الدرس وقد استوعبه جيدًا.
سؤال البرنامج الحزبي:
تأتي الانتخابات ويأتي الأحزاب وتطرح برنامجها الانتخابي الذي تبشر به الجماهير في حال توليها تدبير شؤون البلاد وأصبحت على رأس الحكومة، ثم تأتي الجمعة الأولى من شهر أكتوبر حيث يفتتح الملك الدورة التشريعية الأولى للبرلمان، ويعرض فيه تصوره لعمل الحكومة، فيصبح البرنامج الحكومي برمته في خبر كان بالأحرى برنامج الحزب.
من هنا، فإن حزب العدالة والتنمية ليس عنده برنامج، وبرنامجه الحكومي هو برنامج رأس الهرم في السلطة، ولا يستطيع الخروج عنه ولو قيد أنملة.
سؤال القرار السياسي في القضايا الإستراتيجية:
الفصل (49) من الدستور:
يتداول المجلس الوزاري في القضايا والنصوص التالية:
– التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة.
– مشاريع مراجعة الدستور.
– مشاريع القوانين التنظيمية.
– التوجهات العامة لمشروع قانون المالية.
– مشاريع القوانين.
-الإطار المشار إليها في الفصل (71) (الفقرة الثانية) من هذا الدستور.
– إعلان مشروع قانون العفو العام.
– إعلان مشاريع النصوص المتعلقة بالمجال العسكري.
– إعلان حالة الحصار.
– إشهار الحرب.
– مشروع المرسوم المشار إليه في الفصل (104) من هذا الدستور.
– التعيين باقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني، في الوظائف المدنية التالية: والي بنك المغرب، والسفراء والولاة والعمال، والمسؤولون عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي، والمسؤولون عن المؤسسات والمقاولات العمومية الإستراتيجية.. وتحدد بقانون تنظيمي لائحة هذه المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية.
وهذا مجلس معلوم دستوريًا أنه مجلس يكون تحت إشراف الملك، وهو غير المجلس الحكومي الذي يترأسه.
قد يدخل أحد في جدال وقد يحاول أن يتناول أو يؤوِّل هذا الفصل من الدستور ليجد مصوغًا لأشياء، لكن الذي ينبغي أن يكون تمام الوضوح أن هذا الفصل يضع الحكومة، فبالأحرى الأحزاب، خارج دائرة كل ما هو إستراتيجي، فدورها يقف عند نقطتين:
– الاقتراح، إن طلب منها ذلك.
– التنفيذ، وتلك هي المهمة الجوهرية المنوطة بها.
ولذلك، فإن أي قراءة سياسية لما هو مرتبط بالقضايا الإستراتيجية لأي حزب خارج قراءة السلطة العليا للقضايا الإستراتيجية تعتبر مصادمة وخارجة عما يسمى بالإجماع الوطني؛ لأنه في هذه القضايا ليس هناك إلا قراءة واحدة ووحيدة.
الخلاصة:
قد تكون هذه القراءة سلطت الضوء على جزء لا بأس به من معرفة طبيعة المشاركة السياسية داخل دواليب الدولة، هذا من جهة.
من جهة أخرى، فإن الذي ينبغي أن يكون بينًا أن ما قام به حزب العدالة والتنمية من توقيع على اتفاق التطبيع، إنما قام به بقناعة تامة، فهو منذ أن وطأت قدماه باب القصر كان قد استوعب جيدًا ما سبق أن تحدثنا عنه في الكلمات السابقة، ولذلك فهو مستعد للقيام بأي خطوة يخطوها القصر ولن يكون إلا مناصرًا له تحت مسميات متنوعة متعددة.
مطلوب منا معشر الإسلاميين أن نعيد قراءة الكثير من المقدمات التي تبدو لنا مسلَّمات، كما هو مطلوب منا أن نخرج من العاطفة المجنحة ونقطع دابر هذا المرض.
__________________________________
(*) مفكر مغربي وأستاذ علوم سياسية.