يتفنن الناس في كتابة سيرهم الذاتية ويبدعون فيها، بل إنهم يبحثون عن كل طريقة جديدة من حيث الشكل والألوان والتنسيق وغير ذلك، لكن القليل منهم من يفكر في سيرته الذاتية بعد الموت؛ ماذا سيُكتب فيها؟ وماذا سيُقال عنها؟
وكل يوم يمر علينا نقرأ أو نسمع أو نشاهد أن فلاناً قد مات، وقد تربطنا به صلة قرابة أو علم أو جوار، ونسمع ثناء الناس عليه أو ذمهم فيه، فماذا حرّك ذلك فينا من مشاعر أو همّة أو توبة أو مبادرة للخيرات؟
المتعارف عليه في الحياة أن الناس يشهدون لبعضهم بعضاً؛ إما بالخير والمعروف، وإما عياذاً بالله بالشر والمنكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى لنا بعض القرائن التي من خلالها يمكننا أن نحكم على ظاهر حياة الناس، ومنها قوله: “إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان” (رواه الإمام أحمد والترمذي وقال الترمذي: حسن غريب).
إن شهادة هذه الأمة لا تقتصر على شهادة شخص في شخص بالحياة؛ بل تشمل شهادتها فيمن مات ممن هم على ظهرها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مُرَّ بجنازة فأُثْنِيَ عليها خيرًا، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: “وجبت وجبت وجبت”، ومُرَّ بجنازة فأثني عليها شرّاً، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: “وجبت وجبت وجبت”، قال عمر: فدى لك أبي وأمّي، مُرّ بجنازة فأثني عليها خير فقلتَ: وجبت وجبت وجبت، ومرّ بجنازة فأثني عليها شرّ فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنّة، ومن أثنيتم عليه شرّاً وجبت له النّار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض” (رواه البخاري).
وأخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أيّما مسلمٍ شَهِد له أربعةٌ بخيرٍ، أدخله الله الجنة”، فقُلنا: وثلاثة؟ قال: “وثلاثة”، فقلنا: واثنان؟ قال: “واثنان”، ثم لم نسألْه عن الواحد.
قال النووي: “وفي هذا الحديث استحباب توكيد الكلام المهتم بتكراره ليحفظ وليكون أبلغ، وأما معناه ففيه قولان للعلماء؛ أحدهما: أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، فكان ثناؤهم مطابقاً لأفعاله فيكون من أهل الجنة، فإن لم يكن كذلك فليس هو مراداً بالحديث.
سيرتك بعد الموت يمكن أن تكون بحاراً من الحسنات أو من السيئات تتوالى إلى يوم القيامة
والثاني وهو الصحيح المختار: أنه على عمومه وإطلاقه، وأن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تُحتم عليه العقوبة، بل هو في خطر المشيئة، فإذا ألهم الله عز وجل الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه سبحانه وتعالى قد شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وجبت، وأنتم شهداء الله”، ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء فائدة.
وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة، فإن قيل: كيف مُكِّنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سبِّ الأموات؟
فالجواب: أن النهي عن سبِّ الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة؛ فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بِشَرٍّ للتحذير من طريقتهم ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه مما ذكرنا، هذا هو الصواب في الجواب عنه وفي الجمع بينه وبين النهي عن السب”(1).
وقال ابن حجر: “قوله: “أنتم شهداء الله في الأرض” أي المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم، قال: والصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين”(2).
وقال العيني: “وحاصل المعنى أن ثناءهم عليه بالخير يدل على أن أفعاله كانت خيراً فوجبت له الجنة، وثناءهم عليه بالشر يدل على أن أفعاله كانت شراً فوجبت له النار، وذلك لأن المؤمنين شهداء بعضهم على بعض”(3).
اللهُ يـَدْرِي كـلَّ مَـــا تُضْمِـــر
يعلَـُم مـا تُخفـِي ومـا تُظهِـر
وإنْ خَدَعْتَ الناسَ لَمْ تَستَطِعْ
خِدَاعَ مَنْ يَطْوِي ومَنْ يَنْشُر
الرحمة والغضب
إن الصالح من أهل الدنيا إذا ختم له بخير شيعه كل شيء وشهد له كل شيء حتى موضع سجوده وحتى ملائكة الرحمن، بينما الفاجر يلعنه كل شيء ويمقته كل شيء؛ وهذه شهادة لا تبديل فيها ولا تغيير؛ لأن من يملكونها ويقدمونها لا سلطان للإنسان عليهم.
عندما يقول الله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) (الزلزلة: 4) يفسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: “أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟”، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا؛ أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا”، قَالَ: “فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا” (سنن الترمذي 2429).
بل إن الملائكة يشهدون لك أو عليك عند خروج روحك من جسدك، كما جسَّد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في مشهد مهيب، يبرز التناقض ما بين الإنسان الصالح وغير الصالح؛ في حديث طويل، بدايته: “إِنَّ العبدَ المؤْمن إذا كان في انْقِطَاعٍ من الدُّنْيَا، وإِقْبالٍ من الْآخِرَةِ، نزل إليه من السَّمَاءِ ملائكةٌ بِيضُ الوجُوهِ…” إلى آخر الحديث (صحيح الجامع 1676).
النهي عن سبِّ الأموات مقصود به غير المنافق وسائر الكفار وغير المتظاهر بفسق أو بدعة
إن سيرتك الذاتية بعد الموت يمكن أن تكون بحاراً من الحسنات تجري إلى يوم القيامة، أو بحاراً من السيئات تتوالى إلى يوم القيامة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” (رواه مسلم).
كما أن آثار العمل تبقى لك أو عليك بعد الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَنَّ فِي الإسلامِ سُنَّةً حسَنةً فله أجرُها، وأجرُ مَنْ عمِل بها مِنْ بعدِه من غيرِ أنْ يَنقُصَ من أجورِهم شيءٌ، ومَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئةً كان عليه وزرُها ووزرُ من عمِلَ بها من بعدِه من غير أن يَنقُصَ من أوزارِهم شيءٌ” (رواه مسلم).
إِنَّـــا لَنَـفْــرَحُ بِـالْأَيَّـــامِ نَقْطَعُهَــا
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَـلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِداً
فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ
من أنت؟
ما سبق يجعلنا نفهم لماذا يترحم الناس على فلان؟ ولماذا يذمون فلاناً؟ لماذا يقول بعضهم: رحم الله فلاناً أو غفر الله لفلان، أو رضي الله عن فلان؟ ولماذا يقول البعض الآخر: أراحنا الله من فلان، أو أهلك الله فلاناً، أو غضب الله على فلان؟
فعن أبي قتادة بن رِبْعيٍّ الأنصاري رضي الله عنه، أنه كان يحدِّث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال: “مُستريحٌ ومُسْتَراحٌ منه”، قالوا: يا رسول الله، ما المُستريحُ والمُستَراح منه؟ فقال: “العبد المؤمن يستريح من نصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يَستريح منه العبادُ والبلاد والشجَرُ والدوابُّ” (أخرجه البخاري 6147، ومسلم 950).
إن ضرر الإنسان المستراح منه تعدى حدود بني جنسه إلى البلد والشجر والدواب، تعدى حدود المكلّفين إلى الأشياء والجمادات.. فمن أي فئة ستكون أنت؟
الهوامش
(1) النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، 7/ 19، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ.
(2) أحمد بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 3/ 229، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
(3) العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 8/ 195، دار إحياء التراث العربي، بيروت.