في كل عام من شهر مايو تهل علينا ذكريات عبقة من صفحات التاريخ الإسلامي في الفتوحات حيث تمر في الـ30 منه ذكرى فتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية.
ذلك الفتح الذي جاء تحقيقاً لبشارة رسول الله، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند وغيره، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”، وزاد الاهتمام بفتح القسطنطينية مع ظهور الدولة العثمانية، إذ تحقق وعد الله تعالى بالفتح لتصبح تلك المدينة العظيمة داراً من ديار الإسلام إلى يومنا هذا.
ونحن نجدد في نفوسنا هذه الذكرى المجيدة، نستذكر ونتدارس إستراتيجية الفتح ونتعلم من عبقرية الفاتح لنستلهم العبر والدروس.
من السلطان الفاتح؟
لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش
إنه أحد سلاطين الخلافة العثمانية محمد بن مراد الثاني الذي ولد في أدرنة عام 1429م، ويعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بـ”الفاتح” و”أبي الخيرات”.
حكم ما يقرب من 30 عامًا كانت خيرًا وعزة للمسلمين، تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده بتاريخ 18 فبراير 1451م، وكان عمره آنذاك 22 عاماً.
كان صاحب شخصية فذة جمعت بين القوة والعدل، كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال، حتى إنه اشتهر أخيرًا في التاريخ بلقب “محمد الفاتح”، لفتحه القسطنطينية.
عبقرية الفاتح
امتلك السلطان محمد الفاتح –أعظم به من فاتح!– قدرات ومؤهلات فذة، فلم تكن عقلية الفاتح العسكرية الفذة محض صدفة على الإطلاق، وتجلت ملامح هذه العبقرية في طريق إعداده وتعليمه منذ الصغر، فمنذ صباه كان شغوفاً بتعلم أساليب الحرب، ودرس كتب الحيل الميكانيكية؛ فاخترع منجنيقاً ضخماً، واخترع 4 أبراج متحركة، ويرجع إليه الفضل في اختراع أول مدفع هاون في التاريخ، وقد أشرف بنفسه على صناعة المدافع العملاقة التي خرقت أسوار القسطنطينية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اهتم بدراسة التاريخ العسكري العالمي وفنون وإستراتيجيات السياسة والمؤامرات المحلية والدولية التي استهدفت دولة الخلافة، ودرس كتب الحروب الصليبية دراسة متأنية، كما قرأ نصوص 14 مشروعاً أعدت من قبل الأوروبيين لتدمير الدول الإسلامية.
إستراتيجيات الفتح
لم يكن الفتح وليد اللحظة ولا محض الصدفة ولا مجرد معركة عابرة، بل استغرق الإعداد له سنوات طويلة، حيث اتخذ السلطان العديد من الإستراتيجيات والتدابير لتكون دولة الخلافة مؤهلة داخلياً وخارجياً لمشروع الفتح، وتميز السلطان بوضع إستراتيجيات متميزة كان لها الفضل في التمهيد لفتح القسطنطينية التي يمكن رصد أهمها على النحو التالي:
1- إستراتيجية هندسة إدارة الدولة:
انتهج محمد الفاتح المنهج الذي سار عليه أجداده في الفتوحات، ولقد برز بعد توليه السلطة بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرًا بالأمور المالية، فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف.
2- إستراتيجية تطوير إدارة الأقاليم:
عمل السلطان الفاتح على تطوير إدارة الأقاليم، وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم، وعزل من ظهر منه تقصير أو إهمال، وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام.
3- إستراتيجية تطوير الجيش:
السلطان الفاتح كان صاحب شخصية فذة جمعت بين القوة والعدل
ركز على تطوير كتائب الجيش، وأعاد تنظيمها، ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر، ومنذ بداية تسلمه للسلطنة، قام السلطان محمد الفاتح بإعداد جيش كبير بلغ حوالي 250 ألف مقاتل، وشرع بتجهيز الحصون والقلاع على أطراف القسطنطينية، ولم تفلح محاولات الإمبراطور البيزنطي في ثنيه بالأموال ومعاهدات الصلح، وقام الفاتح ببناء قلعة روملي حصار على البوسفور من الطرف الأوروبي مقابل قلعة عثمانية شيدت على البر الآسيوي زمن السلطان بايزيد الثاني.
كذلك اعتنى محمد الفاتح بجمع الأسلحة اللازمة لدك حصون المدينة، واعتمد على مهندسين لتطوير صناعة المدافع المتطورة، ومن هؤلاء اعتماده على مهندس مجري اسمه أوربان، كما طور الأسطول العثماني وزاد في تسليحه حتى وصل لقرابة 400 سفينة حربية ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية.
4- إستراتيجية تحييد الأعداء:
وقع السلطان الفاتح قبيل هجومه على القسطنطينية معاهدات لمهادنة أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة غلطة المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع المجد والبندقية، وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية.
5- إستراتيجية تشجيع العلماء:
ساهم العلماء الربانيين، مثل أحمد بن إسماعيل الكوراني “معلم الفاتح”، وآق شمس الدين “الملهم الروحي للفتح”، في تشجيع السلطان محمد الفاتح، على مضاعفة حركة الجهاد، والإيحاء له بأنه الأمير المقصود بحديث النبي الكريم.
6- إستراتيجية الاستطلاع العسكري:
كانت القسطنطينية محاطة بالمياه البحرية في 3 جبهات؛ مضيق البسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة إلى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدمًا وعليه أبراج يصل ارتفاعها إلى 60 قدماً، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة 25 قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها 11 محاولة إسلامية سابقة، كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها إلى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش، حتى وصل جيش الفتح يقوده الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ/ 6 أبريل 1453م.
7- إستراتيجية الحرب النفسية:
كان شغوفاً بتعلم أساليب الحرب ودرس كتب الحيل الميكانيكية
أثناء حصار مدينة القسطنطينية لجأ العثمانيون إلى طريقة عجيبة في محاولة منهم لدخول المدينة، حيث أمر السلطان محمد الفاتح بحفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة إلى داخل المدينة، وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض فأسرع الإمبراطور البيزنطي بنفسه ومعه قواده ومستشاروه إلى ناحية الصوت، وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض للوصول إلى داخل المدينة، فقرر المدافعون عن المدينة حفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين.
عندما وصل العثمانيون إلى الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا إلى سراديب سرية تؤدي إلى داخل المدينة، وأثناء فرحهم بذلك يباغتهم البيزنطيون بصب ألسنة النيران والنفط المحروق والمواد الملتهبة عليهم، وقد أدى هذا إلى اختناق كثير منهم واحتراق بعضهم وعودة الناجين من حيث أتوا؛ إلا أن هذا الفشل لم يفتّ في عضد العثمانيين، فسرعان ما عاودوا حفر أنفاق أخرى في أماكن مختلفة، وقد أصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لا يوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم ما هي إلا صدى الصوت الناتج عن حفر العثمانيين.
8- إستراتيجية التحفيز ورفع الهمة:
“قريبًا سيكون لي في القسطنطينية عرش، أو يكون لي فيها قبر”، نطق بها السلطان محمد الفاتح وأملاها لرسول قسطنطين، بعد أيام من المفاوضات سبقتها أيام من البسالة أبرزها جيش الفتح، عبر حفر الأنفاق وتسلق الأسوار عمليات أقرب للجنون والتضحية منقطعة النظير كالتي قرأنا عنها في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، أثارت الرعب في نفوس أهل المدينة أكثر فأكثر، ولكن هناك روحًا أخرى بدأت تبث في نفوس الجيش المحاصر؛ روح بثها أحد المؤلفة قلوبهم بأن لا فائدة من الحصار، فكل يوم يخسر الجيش مئات من الجنود دون جدوى، فعقد السلطان الفاتح اجتماع شورى جمع فيه القادة والعلماء، وأكد السلطان عزمه فتح المدينة فبالإيمان وحده سيكون النصر والظفر، وطلب منهم بث الهمة في صفوف الجيش، فانتشر الدعاة والأئمة بين صفوف جنود يبثون روح الجهاد والصبر حتى يأتي النصر، وفي يوم 28 مايو رأى البيزنطيون النيران تندلع في معسكر المسلمين هكذا ظنوا، حتى سمعوا صيحات التكبير ليكتشفوا أن ما تلك النيران سوى ليلة الاحتفال بالنصر مقدمًا.
9- إستراتيجية الحرب خدعة:
لما استعصت المدينة على الفتح، لجأ السلطان الفاتح إلى استخدام حيلة جديدة، حيث أمر بصناعة قلعة خشبية ضخمة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من أسوار المدينة، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وملئت بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الدور العلوي يحتوي على الرماة الذين كانوا يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار.
وقد تمكن جيش الفاتح من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين البيزنطيين المتواجدين على الأسوار قتال شديد، واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار، وكثف المدافعون عن المدينة من قذف القلاع الخشبية بالنيران حتى تمكنت منها فاحترقت، إلا أنها وقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين، وكان الفاتح يشجع جنوده حتى لا يصيبهم الإحباط عندما سقطت القلعة قائلاً: “غدًا نصنع 4 أخرى”.
10- إستراتيجية الحصار:
أشرف بنفسه على صناعة المدافع العملاقة التي خرقت أسوار القسطنطينية
نتيجة التحصينات الشديدة والمحكمة للمدنية استخدام السلطان الفاتح إستراتيجية الحصار الذي دام 54 يوماً؛ من 6 أبريل وحتى 29 مايو 1453، حيث شن جيش الفاتح هجمات من البحر أيضاً وليس فقط من البر، وقد كان خليج القرن الذهبي مغلقاً بسبب السلاسل الممدودة عبر مصبه لمنع السفن من الدخول إلى هذا المدخل من البوسفور، وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، وأحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة.
وبرزت عبقرية الفاتح أثناء الحصار، حيث لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعدًا عن حي غلطة خوفًا على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة، لقد جُرت السفن من البوسفور البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من 70 سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته.
نجاح الإستراتيجيات وتحقق النصر
عند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ/ 29 مايو 1435م، أمر السلطان الفاتح بالهجوم العام على المدينة مع صيحات التكبير وانطلقت طلائع الفاتحين نحو الأسوار، وخاف البيزنطيون خوفًا عظيمًا، ودقت نواقيس الكنائس وكان الهجوم بريًا وبحريًا في آن واحد، وعلى عدة جبهات ومن مناطق عدة، وحمى وطيس المعركة وكان قتلى البيزنطيين وشهداء العثمانيين يسقطون بأعداد كبيرة.
بعد دخول جيش الفتح إلى قلب المدينة، توجه السلطان محمد الفاتح إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفًا عظيمًا، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له، فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إلى مسجد، وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة.
وتم الفتح وأعطى السلطان الفاتح للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية، لكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.
_____________________
مراجع ومصادر ذات صلة:
1- محمد الفاتح وفتح القسطنطينية.. ذكرى خالدة، الجزيرة نت.
2- فتح القسطنطينيّة.. من مذكرات الفاتح، ترك برس.
3- فتح القسطنطينية.. تغير في مجرى التاريخ، د. معمر فيصل خولي، مركز الروابط للبحوث والدراسات.
4- عبدالعزيز العمري، الفتوح الإسلامية عبر العصور، ص358.
5- علي الصلابي، الدولة العثمانية، دار التوزيع، بور سعيد، 2001م، ص. ص87 – 125.
6- فتح القسطنطينية، محمد صفوت، ص69.
7- محمد حرب، العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص253.
8- محمد فؤاد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ص43.
9- محمد مصطفى، فتح القسطنطينية وسيرة السلطان محمد الفاتح، ص36-46.
10- “لتفتحنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”، إبراهيم أحمد عيسى، ساسة بوست.