إن مساعي الاحتلال إلى إحلال المستوطنين مكان الفلسطينيين من أهالي حي الشيخ جراح، وما نتج عن ذلك من هبَّة فلسطينية شاملة وعدوان على غزة، تزامن معها حراك عالمي تفاعلاً مع القضية؛ فتح نقاشاً موسعاً حول فلسطين ومحورية قضيتها يطمح الاحتلال في محو هويتها، وتوصيف الصراع في ضوء الشرع، فما توصيف فلسطين كأرض مقدسة والتصدي للاحتلال في ميزان الإسلام؟
هذا ما طرحناه على بعض العلماء والدعاة الذين أكدوا محورية القضية الفلسطينية لارتباطها بالمسجد الأقصى وما له من قداسة في ديننا.
بداية، قال د. نواف تكروري، رئيس هيئة علماء فلسطين في الخارج: إن فلسطين وصفها الله سبحانه في كتابه في مواضع عدة بأنها الأرض المباركة، كما في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1)، كما ورد وصف البركة مراراً في القرآن لفلسطين وأرض بيت المقدس، وذكرت أيضاً بالقداسة في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (المائدة: 21).
الشجراوي: الاحتلال اختار 11 يونيو لبدء تهويد القدس لأنه اليوم الذي دخل فيه الرسول حصون خيبر بالمدينة المنورة
ومن جانبه، قال د. محمود الشجراوي، عضو قسم القدس في هيئة علماء فلسطين بالخارج، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: إن ارتباطنا بالقدس والأقصى ارتباط عقيدة وعبادة؛ فنحن نعبد الله بخدمة هذه القضية، كما أنه ارتباط تاريخي، فتاريخنا ممتد في هذه الأرض منذ أكثر من 1300 سنة، وحين نذكر القضية الفلسطينية، نذكرها كونها أرضاً تباركت وتقدست بوجود المسجد الأقصى فيها، ذكرها الله في القرآن الكريم بالبركة، وهي أرض المحشر والمنشر، وأرض الرباط كما ورد في أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وهناك آيات كثيرة في القرآن ترتبط بوجه أو بآخر بالقدس والمسجد الأقصى، لكن أعظم آية ذكرت المسجد الأقصى باسمه وأوضحت أن الله تعالى هو الذي سماه بهذا الاسم هي الآية الأولى من سورة “الإسراء”؛ فهذه الآية وحدها تكفي القدس والمسجد الأقصى شرفاً عظيماً، وفلسطين هي أرض الإسراء فكانت منتهى رحلة الإسراء ومبتدأ رحلة المعراج، والإسراء والمعراج.
أما الشيخ طه سليمان عامر، رئيس هيئة العلماء والدعاة في ألمانيا، فقال: فلسطين أرض مباركة ومقدسة ليست كغيرها، فهي أرض النبوات والبركات، وفيها المسجد الأقصى الذي هو مهوى أفئدة المسلمين، إليه تشد الرحال وفي رحابه يرابط النساء والرجال، وفي أكنافه طائفة ظاهرة على الحق غالبة للباطل لا يضرهم من خذلهم، وعن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلُ؟ قالَ: “المَسْجِدُ الحَرَامُ قُلتُ”: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: “المَسْجِدُ الأقْصَى”، قُلتُ: كَمْ بيْنَهُمَا؟ قالَ: “أرْبَعُونَ سَنَةً، وأَيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهو مَسْجِدٌ” (رواه مسلم)، ومن أجمل وأرق ما قيل في بيت المقدس، ما روي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: “من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس”.
مخطط التهويد
ومن المخاطر التي تعيشها فلسطين نتيجة الاحتلال، مخططات التهويد وفي مقدمتها تهويد القدس، وعن هذا المخطط، قال د. الشجراوي: التهويد نقصد به تغيير الهوية؛ أي تغيير هوية القدس من الهوية العربية الإسلامية إلى هوية صهيونية يهودية غير هويتها الأصلية، والحقيقة أن الاحتلال الصهيوني يواجه معضلات كبيرة جداً في تغيير هوية المدينة، أولها السكان، ثم المعالم والمساجد والكنائس والبناء المملوكي الذي ما زال قائماً، إضافة إلى التاريخ المتجذر، كل هذه معضلات يحاول العدو الصهيوني طمسها وتغييرها وتزويرها تاريخاً وجغرافية.
عامر: إذا كان الركون للظالم سبباً للعذاب في الآخرة فما بالنا بالاعتراف بالمحتل والتحالف معه ضد المسلم؟!
ويوضح الشجراوي أن مخططات تهويد مدينة القدس بدأت في 11 يونيو 1967م؛ أي بعد احتلال القدس بأربعة أيام، وأن الاحتلال اختار هذا التاريخ بعناية لأنه اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حصون خيبر بالمدينة المنورة، وبدأ الصهاينة مخطط تهويد القدس بهدم حارة المغاربة المجاورة للمسجد الأقصى من ناحية الغرب، ومن وقتها لا يزال التهويد مستمراً، وكل يوم وآخر يقوم الاحتلال بمجازر بحق بيوت القدس وهدمها، ومؤخراً رأينا مساعي إخلاء حي الشيخ جراح، وبطن الهوى، وسلوان، وكل هذه الأحياء مهددة ضمن تغيير هوية القدس، والمعركة الحقيقية بيننا وبين العدو الصهيوني في القدس فهي محور الصراع وقضية القضايا.
وأضاف الشجراوي: وضمن مخطط التهويد انتقل الاحتلال منذ سنتين من تهويد القدس إلى تهويد المسجد الأقصى المبارك، فحاول أولاً تقسيم المسجد الأقصى زمانياً، ويقصد به “إغلاق المسجد الأقصى أمام المسلمين في أيام السبت والأعياد اليهودية”، وهذا مخطط أفشله المسلمون والمرابطون؛ فلك أن تتخيل أن الأعياد اليهودية 100 يوم في السنة، إضافة إلى أن السنة بها تقريباً 52 يوم سبت؛ أي أن الاحتلال خطط لإغلاق المسجد الأقصى في وجه المسلمين نصف العام تقريباً، وإن كان الاحتلال فشل في تطبيق التقسيم الزماني للأقصى، فإنه أرسى وثبت اقتحامات المستوطنين للأقصى نحو 5 أيام أسبوعياً، وهي اقتحامات صباحياً ومسائية، وإن كانت المسائية ليست يومية.
وبجانب التقسيم الزماني، فشل الاحتلال كذلك في التقسيم المكاني؛ إذ فشل في السيطرة على “المصلى المرواني” عام 1996م، وفشل في السيطرة على مصلى “باب الرحمة” عام 2019م، وشهدنا حينها هبَّة المقدسيين في باب الرحمة التي نتج عنها فتح المصلى وإعادته للمسلمين، لكن لا يزال الاحتلال يحاول السيطرة على المنطقة الشرقية من المسجد التي تتراوح مساحتها بين 10 و18 ألف متر مربع، والآن يطلق إعلام الاحتلال على هذه المنطقة اسم “البستان الشرقي”.
وتطور بعد ذلك مخطط تهويد “الأقصى” وانتقل خلال العام الجاري إلى خطوة خطيرة؛ وهي إيجاد الهيكل المزعوم مشاعرياً قبل إيجاده بناءً، وقد سمح الاحتلال للمستوطنين بالطقوس وتلاوة الصلوات التلمودية، وبهذا قام المستوطنون بكل الطقوس التي لم يكونوا يستطيعون القيام بها من قبل، ولم يبق سوى تقديم القرابين في داخل “الأقصى” المبارك، وقد أعدوا لهذه القرابين مذبحاً خاصاً في الجهة الغربية من المسجد عند باب المغاربة من جهة الخارج.
هاشم: فلسطين لن تعود إلا بالجهاد في سبيل الله وعلى الأمة أن تدعم المقاومة
التطبيع
وفي ظل هذا الصراع مع الاحتلال، اتجهت بعض الدول العربية إلى عقد اتفاقيات تطبيع مع الاحتلال، وعن ذلك قال الشجراوي: التطبيع هو جعل العلاقة طبيعية، ولو كان التطبيع الذي يتم هو جعل العلاقة طبيعية مع المحتل، فنحن مع التطبيع لأن العلاقة الطبيعية مع المحتل هي قتاله وإخراجه من الأرض التي احتلها، أما إذا كان التطبيع هو الاستسلام للعدو فقطعاً نحن لسنا معه قولاً واحداً، فالتطبيع بهذه الحالة هو خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، والله تعالى حرَّم ذلك، فقال سبحانه: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51)؛ فالله حذرنا من موالاة العدو.
أما الشيخ طه عامر فقال: إن موقف الإسلام واضح تجاه الظلم والظالمين، قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود: 113)؛ فإذا كان الركون للظالم سبباً للعذاب في الآخرة، فما بالنا بالاعتراف بالمحتل والتحالف معه ضد المسلم؟! والمحتل الغاصب للأرض والمنتهك للأعراض والمقدسات تَحرُم موالاته والتعاون معه وتعزيز وجوده، والتطبيع خيانة للدين والمقدسات، واعتراف بحقه في مواصلة الظلم والاحتلال.
وقال د. الشجراوي: إن المقاومة للمحتل هي الأمر الطبيعي الذي يقوم به المسلم، وهو أمر مؤصل شرعاً، وفيه من الآيات والأحاديث الكثير في تأصيل الجهاد للعدو الصائل، والاحتلال الصهيوني في فلسطين هو بلا شك عدو صائل، احتل الأرض وهتك العرض ويقتل المسلمين، فقتاله من أوجب الواجبات، وينتقل من فرضية الكفاية إلى فرضية العين، وإن ما تقوم به المقاومة في فلسطين، إنما تقوم به نيابة عن الأمة، ووجب على الأمة دعمها بكل أنواع الدعم مادياً وإعلامياً وغير ذلك، والدعم المالي ليس تبرعاً، وإنما هو جهاد بالمال دعماً لإخوانهم المسلمين الذين يقاومون المحتل.
ومن جانبه، قال الشيخ هاشم إسلام، من علماء الأزهر: ينبغي على الأمة كلها أن تعي أن قضية فلسطين هي قضية عقيدة ودين؛ فما انتصرت فلسطين في الحرب الأخيرة خلال رمضان الماضي إلا بإيمان هؤلاء الشباب المجاهدين الأبطال الذين رفعوا راية الإسلام عالية خفاقة؛ فهم عبّدوا أنفسهم لله وحملوا منهج الإسلام وجاهدوا في سبيله، انطلاقاً من إيمانهم أنها معركة عقيدة فواجهوا الاحتلال وانتصروا عليه رغم قلة عددهم وعدتهم، مصداقاً لقوله: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249)، ففلسطين لن تعود إلا بالجهاد في سبيل الله، وعلى الأمة أن تدعم المقاومة وأن تدفع في سبيل خدمة القضية كل على قدر دوره.
الحسيني: لو نُفِيَ أهل فلسطين كلهم لبقي على ذمة المسلمين عمارة “الأقصى” فقد أُمرنا بشد الرحال إليه
ومما يجب على الأمة فعله تجاه القضية الفلسطينية أيضاً، في رأي د. نواف تكروري: بناء المشاريع العلمية والتربوية والخيرية لأهل القدس تثبيتاً لهم وتمكيناً لهم من الصمود والرباط في مواجهة الاحتلال، إلى جانب الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، فالدعاء سهامه لا تخطئ، وهو فرار إلى باب القوي القادر ورجوع إليه سبحانه، ويجب على العلماء والمجامع العلمية والفقهية أن تُحيي الروح الإسلامية في الأمة، وأن تُصدر الفتاوى الشرعية التي تُلزم الأمة؛ حكاماً ومحكومين، بالعمل لإنقاذ فلسطين والمسجد الأقصى، هذا إلى جانب تعريف الشعوب الغربية بحقيقة الصراع وجرائم الاحتلال وفضح ممارساته أمام العالم؛ فيصبح محل مطاردة ومساءلة في كل مكان، وهذا يتطلب حملات إعلامية وقانونية، وإيجاد نشرات لدراسات علمية وتاريخية حقيقية بمختلف اللغات الحية المنتشرة لكي تفضح هذا الكيان، ويكون مُطارَداً في كل مكان.
ورداً على بعض من يقزمون الصراع إلى صراع بين الفلسطينيين والاحتلال، ويخرجون الأمة خارج الصراع، يقول الداعية الإسلامي الهندي شعيب الحسيني: الصراع الدائم في أرض فلسطين والقدس لم يكن ولن يكون صراعاً قومياً أو وطنياً، لكنه صراع بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين حماية القبلة الأولى وتهويدها؛ فمن يحسبه صراعاً وطنياً فهو ينكر قداسة المسجد الأقصى ويتنازل عن حقه، بل هو حق مشترك لكل المسلمين في العالم، لو نُفِيَ أهل فلسطين كلهم من أرضهم لبقي على ذمة المسلمين عمارة المسجد الأقصى إذ هو مسجد أمرنا بشد الرحال إليه.
ومن جانبه، يقول د. نواف تكروري: إن قضية فلسطين مورس عليها تحريف كبير أريد به تقزيمها كقضية عربية لتحجيم أهلها، وبذلك أخرج من أهلها 85% أو 80% من المسلمين، فالعرب لا تزيد نسبتهم بين المسلمين على 15%، ثم قيل: إنها قضية فلسطينية، وتقزيماً لها وتضييقاً عليها ينسبونها إلى منظمة أو حزب، وهذا ما ينبغي على كل مسلم أن يرفضه، ففلسطين قضية المسلمين جميعاً.