هناك أحداث تؤدي إلى تغيير واسع، وتحوّل في مسار التاريخ.. وفي ضوئها يمكن استشراف المستقبل، ومن المؤكد أن مسيرة الأعلام التي قام بها الصهاينة، وتوجيههم السباب والشتائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم تلك الأحداث.
وعلى الرغم من عدم ظهور نتائج هذا العمل حتى الآن، ونجاح النظم الاستبدادية العربية في كبت الجماهير وقهرها، وإثارة الرعب والخوف في النفوس، مما أدى إلى منع المظاهرات والاحتجاجات.. فإن النار تشتعل في قلوب المسلمين الذين يحبّون رسولهم أكثر من أنفسهم.. وتلك النار سوف تحرق الواقع العربي الكئيب والنظم المستبدة، وقريبا يمكن أن تنفجر الجماهير غضبا وسخطا وتتمرد على حياتها البائسة، وتغضب لكرامتها الضائعة، وتثور لاستقلالها المفقود.
مسيرة شباب القدس
كان ردّ الفعل الوحيد الذي يستحق الفخر به هو مظاهرة شباب القدس التي تعبّر بصدق عن الرأي العام الكامن في العالم الإسلامي كله.
أكتب هذا المقال وأنا أتابع تلك المظاهرة على شاشة الجزيرة مباشر، وأحاول تحليل الهتافات التي تهزّ سماء القدس والواقع العربي.
من أهم نتائج تحليل تلك الهتافات أن الشباب يعبّرون عن منظومة قيم إسلامية أهمها الثبات والتضحية والإصرار على تحقيق النصر.
ولقد ظهر الارتباط بين “لبيك يا محمد”، و”لبيك يا أقصى”، وهذا يعني أن مسيرة الأعلام الصهيونية أشعلت الغضب الإسلامي، وكانت المعاني الإسلامية، وتمجيد المقاومة، وتأكيد أن مشروع المقاومة الإسلامية هو أمل الأمة وطريق مستقبلها سمة عامة للهتافات.
الغضب لرسول الله ارتبط أيضا بتأكيد أن الأمة لن تركع، وهذا الشعار يوضح إخفاق استخدام القوة الغاشمة خلال أكثر من 70 عاما.. فلقد قدمت الأمة ملايين الشهداء الذين يضيئون طريق مستقبلها بدمائهم، وقدمت كثيرا من التضحيات، وأثبتت أنها أمة ما زالت قادرة على الثبات والمقاومة.
الشعب القائد
ومن المؤكد أن شعب فلسطين تحمّل الكثير من المعاناة وقدم الكثير من الشهداء، وتمثّل قصته الإنسانية إلهاما لكل الشعوب التي تكافح لانتزاع حريتها واستقلالها وتقرير مصيرها.
لذلك فإن هذا الشعب يمكن أن يشكل خلال السنوات الآتية القيادة للشعوب في مرحلة كفاح لبناء عالم جديد.
هذا الشعب أوضح أيضا أن الشعوب يمكن أن تبدع كثيرا من الأساليب الجديدة للمقاومة والكفاح، وأن تبتكر أسلحتها وتطورها في ميادين القتال، فالمقاومة في غزة طوّرت أسلحتها بعقول أبنائها وسواعدهم.
في ورش تحت الأرض طوّرت المقاومة الصواريخ التي أرغمت الصهاينة على الحياة داخل الملاجئ، وملأت بالرعب نفوسهم.
ولقد شهد العالم ماذا فعل الرعب بالصهاينة الذين يودّون أن يعمّروا ألف سنة، في حين يستقبل أبطال المقاومة الموت بابتساماتهم المضيئة الجميلة، ويودّعهم الأحبّاء بفخر واعتزاز ببطولاتهم وتضحياتهم وجهادهم.
هذا يعني أن الإبداع لم يكن فقط في اختراع الصواريخ وتطويرها وإطلاقها على العدو.. ولكن الإبداع تمثل في إعادة معنى الحياة والرسالة والوظيفة الحضارية للمسلمين الذين زيف الاستعمار وعيهم طوال القرنين الماضيين، وصرفهم عن المجد والعزة والسيادة والكفاح والمقاومة والبطولة إلى الاهتمام بالبحث عن المنفعة الشخصية ولقمة العيش.
وهنا تتجلى أهمية الشعار الذي ردّده شباب القدس في مظاهرتهم “الموت ولا المذلة”، وأي مذلة أكبر من توجيه الصهاينة السباب والشتائم لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن يريد عيشا بعد أن سمع بأذنيه الصهاينة يسيئون لرسوله؟!
وقد ردّد شباب القدس هذا الهتاف في مواجهة القنابل التي يلقيها عليهم جيش الاحتلال، والتي تعبّر عن القوة الغاشمة.. فهل تتعلم الشعوب العربية الدرس من شباب القدس، وتفضل الموت على المذلة؟!
نتحرر من الهزيمة النفسية
إن الهزيمة النفسية أخطر وأشد تأثيرا من الهزيمة الواقعية، فالأولى تحطم القلوب وتكسرها، وتضعف الهمم والعزائم وتوهنها، وتصرف الشعوب عن التفكير في بناء الحضارة وتحقيق المجد، أما الثانية فتقتل الأجساد، وتدمّر المدن، وتخرب العمران.
والهزيمة الواقعية يمكن أن تتحول إلى نصر، ويمكن بناء كل ما دمرته عندما تتحرر الشعوب من هزيمتها النفسية.
لذلك فإن أهم إنجازات المقاومة في غزة، وكفاح شباب القدس أن المسلمين بدؤوا رحلة التحرر من الهزيمة النفسية، والشعور بالقدرة على تحقيق النصر وإعادة بناء الحضارة الإسلامية.
فإذا كانت فصائل المقاومة الفلسطينية نجحت في إنتاج آلاف الصواريخ في أنفاق غزة.. فماذا يمكن أن يحدث إذا انتفضت الأمة وامتلكت إرادتها، وفتحت المجال لعلمائها ليبدعوا ويبتكروا وينتجوا الأسلحة والطائرات، ويديروا موارد الأمة وثرواتها بأساليب جديدة لتحقيق النهضة والتقدم والنصر؟
لقد أثبتت غزة أن الأمة تمتلك العقول المبدعة، وهذه العقول يمكن أن تبتكر وتنتج، ولكن ما تحتاج إليه الأمة هو التعبير عن إرادتها، وتأكيد حقها في الحياة والتحرر من الهزيمة النفسية، واستعادة الثقة بقدرتها على الفعل وتحقيق النصر.
نصرة لرسول الله
ولكن هل يمكن أن تنتفض الأمة نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أثبتت لها المقاومة أنها قادرة على أن تبني واقعا جديدا.
وهل يمكن أن يفسر ذلك عداء النظم الاستبدادية العربية للمقاومة ومساندة الاحتلال ضدها خوفا من النموذج الذي يمكن أن يلهم الشعوب.
إن دراسة الأحداث توضح أن تأثيرها من الصعب أن يقاس بسرعة.. ولكن الأيام قادمة وستثبت أن التأثير النفسي للمقاومة الفلسطينية في الأمة الإسلامية أكبر من أن يقاس، وستظهر نتائجه في انتفاضة شاملة لن تستطيع القوة الغاشمة للمستبدين العرب وقوى الاستعمار أن توقفها.
ولقد أشعل الصهاينة النار عندما أساؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرتهم التي أراد بها رئيس الوزراء الصهيوني الجديد أن يثبت أنه أكثر قوة وبطشا وحمقا ورعونة من سلفه النتن ياهو.
الحجر سلاح جميل
ومن أهم دلالات المشهد أن شباب القدس استخدموا الحجارة في مواجهة جيش الاحتلال وقوته الغاشمة.
وكانت الانتفاضة الفلسطينية قد بدأت عام 1987 باستخدام الحجارة، وأثار ذلك سخرية الواقعيين الذين تساءلوا ببلاهة: كيف يمكن للكف أن يلطم المخرز؟!
ولكن أساليب المقاومة تطورت، والأطفال الذين استخدموا حجارة أرضهم في مواجهة القوة الغاشمة في انتفاضتهم الأولى أصبحوا الآن علماء، وتمكنوا من اختراع الصواريخ وتطويرها واستخدامها في إثارة رعب الكيان الصهيوني.
وكان الواقعيون الذين طمس الله على بصيرتهم يصفون صواريخ المقاومة بأنها “ألعاب أطفال” لكن شباب المقاومة سخّروا قوتهم العقلية والنفسية وإيمانهم بالله وأملهم في التحرير لتطوير تلك الصواريخ.
واليوم يستخدم شباب القدس الحجارة في بداية مرحلة جديدة.. فهل يمكن أن تتطور الحجارة إلى صواريخ يطلقها الفلسطينيون في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني.
إن العقول المبدعة ستحوّل الحجارة إلى صواريخ نصرة وحبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكن هل يمكن أن تستخدم الشعوب العربية حجارتها للتحرر من الاستبداد والتبعية والخوف من القوة الغاشمة.
رجم الشياطين
والحجر يحمل كثيرا من الرسائل والمعاني، إذ يستخدمه المسلمون لرجم الشيطان في الحج، فهل يمكن أن تنطلق الشعوب قريبا لترجم به الطغاة التابعين للأعداء.
الإجابة ستقدمها الجماهير في المستقبل القريب.. فمن المؤكد أن تلك الجماهير لن تتجرع كؤوس المذلة المرة طويلا، ولن تصمت على توجيه السباب لرسولها الكريم صلى الله عليه وسلم.
الواقع يتغير بسرعة، والمجد لمن يشارك في التغيير ويرفض العبودية للواقع ويتحرر من الهزيمة النفسية.
إن المسلم المخلص لدينه والمحب لرسوله لن يحرص على حياته، وهو يشاهد الصهاينة يوجهون شتائمهم البذيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن تفلح الدعوة للمحافظة على الاستقرار ومراعاة موازين القوى.
إن حجرا في يد مؤمن يصرّ على الدفاع عن حقه في الحياة، ويغضب لدينه ولرسوله، ويدافع عن مسجده الأقصى أكثر تأثيرا من القوة الغاشمة التي ستنهار أمامه.
مرحلة طويلة عاشها المؤمنون منذ استخدام الحجر في الانتفاضة الأولى عام 1987 حتى عودة الحجر في مسيرة شباب القدس عام 2021. وفي هذه المرحلة خاضت المقاومة معركة صراع العقول مع الاحتلال، ومن المؤكد أن عقول المقاومين أبدعت في الميادين، وأنتجت أسلحة جديدة، وطوّرت علم إدارة الصراع.. وهذه العقول قادرة على أن تطور علم استشراف المستقبل، وتحدد أهم الأسس التي يمكن أن تقوم عليها.. فهل تريدون معرفة بعض تلك الأسس؟!
إن الأمة عندما تقاوم وتكافح وتصرّ على فرض إرادتها سوف تنتصر وتحرر فلسطين وتتحرر من الاستبداد وتعيد بناء الحضارة الإسلامية.
—–
* أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس 2012. والمقال نقلا عن “الجزير.نت”.