اتصل بي أحد أصدقائي وطلب مقابلتي، ورغم ضيق والوقت حدت له موعداً مساء، لأنني لاحظت في صوته نبرة أسى وكأن قلبه يعتصر ألماً، وحاولت أن أستفهم منه هل هو مريض، فأجاب بأن الأمر أقسى من أي مرض جسدي، وأردف “الأمر يتعلق بانهيار عائلتي”، ولم يستطع أن يكمل وأغلق الهاتف.
صديقي هذا في منتصف العقد السابع من عمره متزوج وأسرته من النماذج التي يُضرب بها المثل في الاستقرار العائلي، مثقف وقارئ في عدة مجالات ويعمل مهندساً، لديه كثير من الإنجازات حيث يحاضر ويكتب في الثقافة العامة والسلوكيات الاجتماعية، ولكن جل اهتمامه بيته وأعظم ما يعتز به أسرته، كما يعتبر إنجازه الحقيقي أبناءه؛ لذا أدركت حجم معاناته عندما قال لي: إن الأمر يتعلق بانهيار عائلته.
لديه ابنة في بدايات العقد الخامس من عمرها وولدان في العقد الرابع من عمرهما، قبل الموعد اعتذر وقال بصوت متحشرج ينم عن ألم نفسي عميق: “سأرسل لك رسالة، أرجو الرد عليها في أقرب وقت”.
أهم ما تضمنت رسالته ما يلي:
كانت سمية في زيارتنا أمس، وحدث خلاف تافه مع زوجتي فانسحبت إلى غرفتها، وأنا تضايقت جدا لأن الموضوع لا يقتضي ذلك خاصة أن ابنتنا تزورنا، ولا أنكر أن نبرة صوتي كانت عالية وظهر عليَّ ضيق شديد. أنهت سمية زيارتها وهي متوترة وتخفي دموعها مما زادني غضباً.
فوجئت برسالة من سمية تتعلق بعلاقتي بزوجتي وتبادلنا على إثرها عدة رسائل، وهذه مقتطفات عن أهم العبارات التي دارت بيننا.
تحدثت في الرسالة الأولى عن مشاعري تجاه زوجتي، ثم أردفت “الموضوع محتاج خلوة حقيقية منك مع نفسك تصدق فيها مع نفسك الأول تدرك أنت حقيقة شعورك تجاه ماما”، “هل هي السبب في تلك المشاعر؟! لو في حاجة في قلبك منها.. ناقشها بصدق معها عالج هذا الشعور بداخلك، ولو فشلت لا تستمر”، “أنا كان نفسي تحبها وتحبك بجد”، “إما تصلحوا مشاعركم وتنضفوا كل الشوائب والكلاكيع، إما تنفصلوا بهدوء.. أحسن ليكم!! ليه في العمر دا تعيشوا بقلوب غير صافية تجاه بعض؟! ليه!!”.
ثم أردف قائلاً: “نزلت كلماتها عليَّ كالصاعقة، ردت عليها: حسبي الله ونعم الوكيل هذا ظلم وبهتان عظيم”.
فكان ردها “بابا أنت زعلان مني ليه! أنا غلطت معاك في إيه؟! هل مفروض ألغي عقلي وأتجاهل (حضرتك ماعودتنيش ألغي عقلي)، “لكن أنا شايفة أنكم ما ينفعش تعيشوا مع بعض وأنتم تعبانين من بعض وجواكم مشاعر سلبية عميقة تجاه بعض”.
فكان ردي عليها: “رؤيتك سطحية لبعض المواقف في علاقتي بماما، وتكرار نفس الكلام رغم أنني وصفته بالظلم والبهتان.. وأقسم أن ما قدمته لزوجتي تعبيرا عن حبي وتقديري لها يسعد أي زوجة، وما صدمني طرحك لفكرة الانفصال”.
ورغم قسمي فإنها استمرت في افتراءاتها قائلة: “وأنا شايفة طبعاً أنك بتحاول أوي تبين لنا أنك بتحب ماما وعايزها.. بتحاول دايما إظهار ده.. بس في حاجات صغيرة عفوية بتطلع.. بتبين لي شيء آخر.. فبحس إن فيه عدم تناسق بين ما تحاول تأكيده لي أنا وإخوتي وما تظهره بعفوية”.
لقد غضبت منها، وهي من قراء مجلتكم الموقرة، وسبق أن استشارتكم في بعض أمورها، هل يحق لأولادنا أن ينصحونا؟
الإجابة
التحليل:
هل يحق للأبناء نصح والديهم؟
نعم بل يجب، وكذلك كل من هو في مستواهم مثل الطالب لأستاذه والمتعلم لشيخه..
ولكن: كيف؟ وهو الأهم، وإلا تحول النصح إلى عقوق.
يقول عز وجل موجها للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده وهو الذي مدحه {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، {وإنك لعلى خلق عظيم}، {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.
بداية القاعدة الفقهية “درء المفاسد مقدم على جلب المنافع”، وبر الوالدين ذكره الله بعد التوحيد، {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا}، {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما}. وهنا يجب الحذر ألا يظهر النصح وكأنه نهر لهما، حتى في حالة شركهما فالأمر بالصحبة بالمعروف. وعندما نصح سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه بأمر من الله، تلطف معه قائلا: {يا أبت لا تعبد الشيطان}، وتكرر نداء “يا أبت” تقريبا في كل الحوار بينهما، بما يحمله من معنى التلطف أكثر من “يا أبي”.
فما هي الحكمة التي يجب الالتزام بل والحذر منها، وإلا سول الشيطان للابن العقوق وكأنه ينصح:
1- الإلمام بصفة عامة بما يدعو إليه والديه والتأكد من وقوع المخالفة الشرعية، والحذر من الاقتراب من العلاقة الزوجية لوالديه ناهيك عن الحكم عليها، (وأنا رغم مئات الاستشارات الزوجية التي قدمتها لا أحكم على العلاقة الزوجية لأي زوجين، ولكن فقط أقدم الحلول البديلة لما يواجهانه من مشكلات؛ لأن طبيعية العلاقة الزوجية مركبة من عوامل عدة ومتداخلة وتراكمية، وهناك بصمة نفسية للزوجين؛ فلا يمكن لأي أحد مهما كان قريبا أن يدرك ماهيتها). فلا يقوم بدور الحكم، حتى وإن دعاه أحدهما لذلك وبدا له أن أحد والديه مخطئ، فلا يخطئه، وعليه تبرير الخطأ بحسن النية وتذكير كل منهما بمحاسن الآخر.
2- يحذر كل الحذر أن يأخذ دور الناصح فإن كنا نوصي الآباء بالبعد عن أسلوب النصح والوعظ، وهم مسؤولون بأمر من الله عن تربية أولادهم؛ فما بال الأبناء يأخذون دور النصح والوعظ؟
3- استخدام أرق الألفاظ وأعذبها ومراعاة الحالة النفسية للوالدين.
4- مهما بلغت درجة اليقين فيما يعلمونه من أخطاء والديهم فعليهم استخدام الاحتمال مثل “يهيأ لي” أو “لست متأكدا.. يمكن” ولا يصوغ العبارة بصيغة التأكيد مهما كانت درجة يقينه في الخطأ الذي وقع فيه والداه.
5- ليس المطلوب فقط إعطاء العذر للوالدين؛ بل وطرح العذر عليهم، أي مساعدتهم على إيجاد المبرر لخطئهم. بمعنى “لعلك يا والدي كنت مجهدا وتحت ضغوط ولم تقصد..”.
6- المهم المحافظة على ماء الوجه وعدم خدش حياء الوالدين عند إبداء النصح.
7- أقصى حدود تدخل الأبناء في العلاقة الزوجية لوالديهم هو تجميل كل منهما في عين الآخر فقط.
فإذا أخذ الابن كل المحاذير السابقة فيمكن أن يكون رد فعل الوالدين قبول النصح، ولكن الإشكالية قد تقع عندما ينكر الوالدان الفعل الذي بسببه ينصحهما الابن، وهذا قد يكون لأحد هذه الأسباب:
أ- أخذته العزة بالإثم، فكبرت في نفسه كيف ينصحه ابنه؟
وهنا أحذر من أي تماد؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث “لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم”، والوالدان أولى بالبر من الأخ.
ب- أن نصيحة الابن خدشت حياء الوالدين، فخجلا من اطلاع ابنهما على سوآتهما.
ج- أن الوالدين فعلا لم يقعا في الخطأ الذي من أجله نصحهما ابنهما.
د- أن الوالدين لديهما المبررات التي لا يريد أن يطلع عليها ابنهما.
وأيا كانت الأسباب فعلى الابن الاعتذار وتقديم عدة تبريرات تؤكد خطأ ملاحظته ويتهم ذاته أنه لم ير جيدا أو لم يسمع بدقة، أو أنه كان مجهدا إلى آخر ذلك من التبريرات التي تؤكد للوالدين أن الابن لم يره في خطئه حتى وإن كان الابن على يقين راسخ بوقوع والديه في الخطأ.
وأحذر الأولاد من أن يسول لهم شيطانهم التمادي بالتطاول على والديهم بالتأويل الخاطئ لما يلي:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنما الدين النصيحة”، “المؤمن مرآة أخيه”.
وقول الفارق عمر: “رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي”.
إن مجادلة الوالدين فيما ينكرانه من الإثم وإقامة الحجة عليهما بما يجرح حياءهم أو يضعهما في موضع المدافع عن نفسه نوع من العقوق، وقد يدفعهما ذلك إلى القسم بأن تصورات الابن عنهم خطأ! وهذه كارثة وقمة الضعف النفسي أن يلجأ الوالد للقسم لإثبات عكس ما يقوله الابن وليدرأ الإثم عن نفسه.
وهذا أشق على نفسية الوالدين من أن يسبهما ابنهما، لأن اطلاع الولد على نقيصة والديه جرح نفسي وهتك لسترهما.
وقد يتمادى الابن في غيه مبررا ذلك بحرصه على والديه، فيتحدث عن النية وأعمال القلب مثل “أنت محتاج لحظة صدق مع النفس”. إن الصدق مع النفس معنى طيب ويحتاجه كل مؤمن، لكن مطالبتنا الوالدين بذلك اتهام بالرياء والشرك الأصغر.
فأي حب وأي حرص على مصلحة والدي يدفعاني للوقوع في هذا الإثم العظيم.
الحل
أولاً: رسالتي إلى الأخ الكريم (للوالدين):
توضح هذه الرسالة مدى الحساسية التي يتميز بها الأولاد تجاه علاقة والديهم خاصة البنات منهم، والتي تتميز بالمبالغة لأي خلاف قد يبدو بسيطاً من وجهة نظر والديهم، ودائما ما نحذر من ضرورة ضبط سلوكيات الخلافات الزوجية بصفة عامة وأمام الأولاد بصفة خاصة، كما أن الأولاد لا ينسون هذه الخلافات؛ لأنها تُطبع في ذهنهم نتيجة الألم النفسي الذي تحدثه، والأخطر أنها تراكمية التأثير السلبي عن الصورة الذهنية للعلاقة الزوجية لوالديهم؛ لذا فإن السلوك الخاطئ للابنة، ليس وليد الموقف الخلافي لوالديها، بل هو نتيجة لتراكم التأثير السلبي للهفوات -كما يراها الوالد– ولكنها كما يقال “القشة التي قصمت ظهر البعير”.
أحسن الظن بابنتك، رغم تجاوزها حدود الود والبر، ونحسب أنها تبتغي مرضاة الله فيما قدمته من نصح وأنها حريصة عليك أولا أمام الله حتى لا تكون ظالما لنفسك بظلمك لزوجتك، وهذا من البر وإن لم توفق في اختيار الأسلوب المناسب.
أرجو أن ترى الجانب الآخر من الحدث، وهو ضرورة مراجعتك وزوجك لعلاقتكما، وإن تأكدت إنها مجرد هفوات، فعليكما تصفيتها من أي شائبة قد تعكر صفو حياتكما وتعطي انطباعا سلبيا لأولادكما.
كما أؤكد أنه لا حرج بل يجب على كل زوجين أن يراجعا علاقتهما ويصفحا بكل شفافة عن مشاعرهما، ولكن بكل حذر ألا يخدش أحد الزوجين حياء زوجه، فيعظمان ما وجدا من إيجابيات ويتعاونان على ما وجدا من سلبيات.
أن يحرص كلا الوالدين على إظهار أجمل ما في الآخر أمام الأبناء، وألا يسمح أي منهما للأولاد بانتقاد الآخر مهما كان مخطئاً، بل عليه أن يبرر خطأ زوجه، حتى تظل صورة الوالدين في عيون أولادهما طيبة وليست طبعا ملائكية.
ثانياً: رسالتي لابنتنا (الأولاد):
مع كل تقدير لمشاعر الحب تجاه الوالدين، والحرص على أن يعيشا حياة زوجية سعيدة، وألا يقع أحدهما في ظلم نفسه بظلم زوجه، فإنك لن تحيط علما بأبعاد العلاقة الزوجية لتشابكاتها المعقدة، ومهما بلغ من حب والديك لك وما أوتيت من علم، ومهما بذلت من حذر، فإنه صعب على الوالدين تلقي النصح منك خاصة فيما يخص علاقتهما الزوجية، قد يكون أسهل عليهما تلقي نصيحتك في سلوك عام.
وبناء على هذا فعليك التجاهل أو تجميل كل طرف في عين الآخر وتبرير سلوكه إيجابيا، واحذر أن تقف موقف الحكم بين والديك، حتى وإن استدعاك أحدهما فاعتذر بأرق الألفاظ.
أما إذا وجدت ضرورة حتمية لتعديل سلوك أي من الوالدين، فلنا في السبطين الشريفين الحسن والحسين نموذج لحكمة الدعوة والموعظة الحسنة، في القصة المعروفة عندما وجدا شيخا لا يحسن الوضوء، فقالا له: “احكم بيننا من هو أحسن وضوءاً من الآخر”. فلما رأى وضوءهما، أدرك أنهما يعلمانه كيف يتوضأ بأدب البيت النبوي صلى الله عليه وسلم.