هل التحديات تعني القضايا الثائرة الحالّة التي تتطلب موقفاً أو تعاملاً؟ أم أن التحدي أوسع وأكثر امتداداً من الحدث العابر أو المؤقت أو الآني؟
إن عملية التصنيف والتمييز بين التحديات وما هو متغير منها أو ثابت، وما هو مستمر منها أو آني؛ عمليات مهمة وتأسيسية في معالجة التحدي، وقد عرفت منطقتنا العربية والإسلامية أشكالاً ومظاهر متنوعة من التحديات؛ فقد كانت الظاهرة الاستعمارية تشكل تحدياً، كما مثل الاستقلال تحدياً من نوع آخر، وأظهرت الدولة القومية تحديات من نوع مختلف عرفها عالم العرب والمسلمين، ولم يكن التحديث إلا تحدياً جديداً عرفته دولنا وبلادنا، وما تزال التحديات مستمرة بأشكالها وأنواعها الداخلية والخارجية الثابتة والمتغيرة، المستمرة، والآنية.
تتطلب التحديات بدورها ضرورة النظر إلى مستقبلها وتطورها؛ طبيعةً ومساراً وتأثيراً من خلال مناهج التعامل والتناول عن مناهج النظر لها، ومن ثم يمكن في هذا الإطار تعريف التحدي بأنه «حالة» و«وضع» و«موقف» و«علاقة» و«اختيار» و«ابتلاء» و«وعي وإدراك» و«استجابة وسعي» على كل المستويات، كما أنه بهذا الاعتبار إن كان يرتبط بـ«قضايا» أو «إشكالات» أو «أزمات»، فإن جوهر التحدي ليس في التعرض لمثل هذه الحالات، ولكنه يقع في قدرة البشر على إدراكها، والوعي بها، والتعرف على سُنة التعامل معها، وإمكانية تحويل السلبي منها إلى طاقة إيجابية وتعظيم الإيجابي منها، وكذلك يتمثل ذلك في أنماط الاستجابات الفاعلة الواعية النابعة لا التابعة.
فالتحدي على المستوى الكلي قد يكون حالة تتطلب الاستجابة على تنوع ما بين نمط الاستجابة، أو هو تعبير عن حالة متراكمة، وهو بهذا الاعتبار يختلف عن طبيعة المشكلة العابرة التي قد تكشف التحدي وأهمية مواجهته، وكذلك فإن التحدي يعبر عن حالة من الاستمرار النسبي، ومن ثم فإن التحدي قد يعبر عن إشكالات هيكلية، كما قد يعبر عن حالات سلبية، إلا أنه ليس كذلك في كل الأحوال.
فالتحدي قد يكون من طبيعة الأمم لمواصلة رقيها، ومن هنا فإنها تجعل من وجود التحدي أمراً وظيفياً يحرك البواعث والدوافع للعمل المستمر في الترقية والإنماء، كما قد يكون التحدي عملية مستمرة، وهو عمل إيجابي وسلبي، وهو يعني حالة من التنبه المستمر والحفز الدائم ضمن معادلات متشابكة ومستطرقة لا يمكن الفصل الكامل بين عناصرها؛ فالتحديات في عالم المسلمين وغيرهم موصولة ومولدة من بعضها؛ فتحدي البقاء يؤكد تحدي البناء، وتحدي البناء يؤكد تحدي النماء، وكل هذه التحديات بدورها تؤكد تحدي الأداء والسياسات بالنسبة لكل منها، وهذه التحديات الكلية تؤكد بصددها تحديات نوعية أو مشتقة.
ومن أهم تصنيفات تلك التحديات: ما تحرك الأهداف القريبة والبعيدة، وفي هذا المقام فإننا أمام ثلاثة تحديات على الأقل، وتحدٍّ رابع يجمع بينها: تحدي البقاء، وتحدي البناء، وتحدي النماء، والتحدي الذي يجمع بينها هو تحدي الأداء.
تحدي البناء ينصرف لعمليتين مهمتين: «بناء الدولة ومؤسساتها»، و«بناء الأمة وعلاقاتها»، أما تحدي البقاء فهو يعني الحفاظ على أصل الوجود الفعال والقدرة على التمكين له، ولا شك أن هذا التحدي ينصرف لعمليات تتعلق بالشروط الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكفيلة بإحداث واستمرار القدرة على فن البقاء الفعال، أما تحدي النماء؛ فإنه نتاج للتفاعل بين القدرة على البناء والقدرة على البقاء معاً، بما يحقق أطراً لتعظيم الفاعلية والقدرة والتمكين، وما يتطلبه ذلك من إمكانيات لإعادة البناء والقدرة على التصحيح الذاتي والقدرة على إحداث حالة من التنظيم والتعظيم.
تعظيم وتقويم
إن هذه التحديات في الأمة الإسلامية جميعاً تتطلب تعظيماً وتقويماً لمناهج «التعامل والتناول»، وكذا الإمكانات (مناهج التفكير وسياقات الوعي والبناء الفكري)، وكذا القدرات (مناهج التسيير)، والفعاليات (مناهج التدبير، ومناهج التغيير، ومناهج التأثير، ومناهج التمكين، وسياقات السعي والبناء المتعلق بالممارسة).
إن هذه الأطر وتفاعلها («تحدي البقاء»، و«تحدي البناء»، و«تحدي الأداء») يعني تحويل جملة التحديات إلى سياسات وإجراءات وعمليات وأولويات في إطار من تحريك المقاصد والغايات، ومن ثم يمكن النظر إلى حزمة التحديات من خلال رؤية معاني الحفظ المتعلقة بالمقاصد الكلية العامة، ذلك أن تعاضد مستويات الحفظ ووسائله وقدراته مع أهدافه وغاياته ومع استمراره وتأسيسه هي عمليات مهمة للتعامل مع تلك التحديات، أصلية كانت أم فرعية، كلية كانت أم جزئية، سياسية كانت أم غير ذلك، ومن هنا من الضروري الإشارة إلى عدة أمور مهمة، منها:
– حقيقة أن كل التحديات تجابه تحديات تتفاوت في الوطأة والتأثير، وكذا في معنى الضغوط الدافعة والمانعة، وفي معنى الفرصة والمخاطر، وهي بهذا المعنى تحدد معنى الاشتراك في التحدي والتشابه بينها (مع دول العالم الثالث)، والتحديات بمقتضى الاشتراك الإنساني (الإنسانية والمستقبل المشترك).
– أما الأمر الثاني فيتعرف إلى طبيعة التحديات وأوزانها والأولويات المتعلقة بها، والقدرات التي تحرك استجابات منظمة.
– أما الأمر الثالث فيرتبط بشكل الاستجابات لمثل هذه التحديات على تنوعها وتعددها في كافة المجالات الحضارية الاجتماعية منها والاقتصادية والثقافية والفكرية والقيمية وغيرها من تحديات، ويمكن رصد أربعة نماذج لهذه الاستجابات تتمثل في الاستجابة البلاغية والانفعالية، وهي حالة تخرج عن حد المعالجة العلمية والبحثية إلى خطاب مكرور يتسم بالإنشائية وفائض الكلام، والاستجابة الإغفالية، وهي التي تغفل عناصر مهمة في التحديات مثل إغفال السياسي أو إغفال الشأن الداخلي، والاستجابة الافتعالية التي تنشغل بالتهويل في الرؤية وتكريس الواقع السلبي، كما لها جوانب أخرى منها الاستجابة القاتلة والاستجابات المخذولة، والاستجابة المتعلقة بالمعنى، والتفسير التآمري ليس فقط للتاريخ، ولكن امتداداً للمستقبل أيضاً، وأخيراً الاستجابة المتوهمة في إطار منهج تفكير يتعلق بالأماني لا بالعمل الحقيقي على الأرض.
– أما الأمر الخامس يشير إلى أهمية الإطار السنني في تفسير عالم الأحداث والتحديات وضبط عناصر التصور من خلال الضغوط الحضارية والتحديات، السنن الشرطية، والإمكانات بين الإهدار والاستثمار؛ فالسنن تحدد عناصر الفاعلية الحضارية، بما يضفي على الأفعال والرؤى والحركة والتصورات قيمة، وتعني أن الإنسان يحرك طاقاته ضمن حقائق ومساحات السببية خروجاً من أوهام العبثية أو المصادفة ومساحات الخرافة الأسطورية، كما أن السنن تحرك الأفعال ضمن قيم تشكل جوهر الفعل، وقيمه، كما أنها تتعلق بتحريك الفعل الحضاري بكل التفاعلات فيها بين الساحة الحضارية الممتدة، وتشمل الآفاق الكونية، والإنسان الفرد بكل دخائله النفسية والسلوك المترتب عليها والاجتماع والجماعة والمجتمع بما يمثله من مواقف ورؤى وممارسات، والتاريخ بما يمثله من ذاكرة للفعل الحضاري وامتداده لتحقيق معاني العبرة بالحدث والاعتبار والعبور نحو عناصر الفاعلية والتمكين، باعتبارها من عناصر التكليف الكلي لا الجزئي ومن أصول نظرية الحكم لا في الفقه الحكمي ولكن في أصول الفقه الحضاري، وبين كليات القواعد الكلية وكليات السنن تتعلق في إطار محددات الفعل وكذلك مسيرته وسيرورته وتطوره ومآلاته باعتبارها حركة عدل وحركة اختيار وإرادة وحركة مساواة ومناط فعالية الأمة وخيريتها ومكمن وسطيتها.
ومن هنا، نؤكد أن تفعيل المدخل السنني يبني ثقافة المقاومة الحضارية الشاملة والمواجهة الرصينة المتكاملة التي تعني أن تكون الاستجابات للتحديات على مستوياتها: الفكرية والتدبيرية والتسييرية والتغييرية، علينا أن نتعلم سنن تلك الثقافة من خبراتنا التاريخية والمعاصرة، ونتعلم هل نحن على مستوى العدو وتدبيره، ومواجهة كل قابليات العدو فينا، فإن العدو لا يتمكن منا إلا بمقدار ما نمكن له بأنماط تفكيرنا وأساليب سعينا وطرائق مواجهتنا وأشكال استعدادنا.
التحدي بهذا الاعتبار هو صناعة المستقبل بالوعي بتاريخنا وذاكرتنا الحضارية وجوهر هويتنا، والسعي لتغيير واقعنا السلبي وإخفاقاته، وبناء القدرة على طريق المكانة والمُكنَة والقدرة؛ فتنفتح آفاق الوعي المستنير الرصين ومسالك السعي من كل قوي أمين، وقواعد البناء على طريق التأمين والتمكين.