تراجَعَ سعر صرف الليرة التركية في شهرَي نوفمبر وديسمبر 2021م بشكل ملحوظ، بحيث خسرت الليرة خلال فترة وجيزة ما يقرب من 70% من قيمتها، الأمر الذي كان له ارتدادات اقتصادية وسياسية، قبل أن تتدخل الحكومة التركية باستحداث أداة اقتصادية تكافح هذا المسار، وهو ما كان له أثر واضح في الأيام الأولى.
إذا كانت علاقة الاقتصاد بالسياسة والحكم أهم وأوضح من أن تُشرح، فهي في الحالة التركية ولا سيما حزب العدالة والتنمية الحاكم أوقع وأعمق وأكثر تجلياً، فالأزمة الاقتصادية الخانقة في بداية الألفية الجديدة كانت سبباً في الانسداد السياسي الذي دفع نحو الانصراف عن النخبة السياسية القائمة والبحث عن خيارات جديدة، وهو ما فتح الباب لتأسيس حزب العدالة والتنمية، ثم فوزه في أول انتخابات تشريعية يخوضها في عام 2002م بعد أقل من سنة ونصف سنة على تأسيسه.
كما أن الإنجازات الاقتصادية كانت إحدى أهم بصمات العدالة والتنمية وحكوماته المتعاقبة، وبالتالي استمراره بالحكم لأكثر من 19 عاماً متواصلة، وهي أطول مدة حكم في تاريخ الجمهورية التركية، والاقتصاد هو العنوان الأبرز لأهداف عام 2023م التي أعلن عنها الحزب لمئوية تأسيس الجمهورية التركية، وهو العنوان الأبرز للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في عام 2023م التي عادة ما توصف بالحاسمة والمصيرية، وهو كذلك الراية التي ترفعها المعارضة في وجه الرئيس «رجب طيب أردوغان» للمطالبة بانتخابات مبكرة بذريعة التراجع الاقتصادي وخصوصاً ما يتعلق بسعر صرف الليرة.
وفق خبراء، يعاني الاقتصاد التركي من مشكلات بنيوية وتحديات مزمنة، في مقدمتها افتقار تركيا لمصادر الطاقة؛ ما يجعل ميزانها التجاري في عجز دائم، واعتماد تركيا على الاقتراض والأموال الساخنة والاستثمارات الخارجية إلى حد كبير، وتراجع هذه الأخيرة بعد عام 2013م لأسباب تتعلق بتعافي الاقتصاد الأمريكي ورفع سعر الفائدة هناك وأسباب سياسية أخرى، وضعف إسهام الصناعات التقنية في الصادرات.. إلخ.
لهذه الأسباب وغيرها، بات التضخم أحد أكبر التحديات التي تواجه الحكومة والمواطن على حد سواء، ولا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وقد ذهب المصرف المركزي التركي في السنوات القليلة الأخيرة لرفع سعر الفائدة لمواجهة ذلك، حتى وصلت عام 2018م إلى نسبة 24%، وهي نسبة مرتفعة جداً.
وقد رفع الرئيس التركي شعار خفض نسبة الفائدة لمواجهة التضخم، رغم معارضة الكثير من السياسيين والاقتصاديين، بل وبعض البيروقراطيين من داخل حزبه، ليذهب لمعركة كسر عظم، كما يقال، مُقيلاً عدداً من محافظي المصرف المركزي وموظفيه الكبار لتحقيق رؤيته، إضافة لاستقالة وزير الخزانة والمالية بسبب هذا الخلاف.
ومع خفض سعر الفائدة، فقد تراجع سعر صرف الليرة، بشكل تلقائي أولاً، ولتراجع الثقة بالليرة ثانياً، ولعدم وضوح المسار المستقبلي للفائدة والسياسات النقدية ثالثاً، وبسبب المضاربات المبالغ بها بالليرة رابعاً.
الأداة الجديدة
في 20 ديسمبر 2021م، وصلت الليرة لأدنى مستوياتها على الإطلاق، حيث وصل الدولار الأمريكي لأكثر من 18 ليرة، بينما تخطى اليورو حاجز 20 ليرة، في اليوم ذاته، تكلم الرئيس «أردوغان» بعد اجتماع موسع للحكومة كان على رأس أجندته الاقتصاد والسياسات النقدية.
وقد تضمن خطاب «أردوغان» تأكيداً إضافياً على تصميم حكومته على المضي قدماً بسياسة تخفيض سعر الفائدة رغم إدراكها أن لذلك ارتداداته وانعكاساته السلبية على المواطن، ولا سيما ما يتعلق بغلاء المعيشة وتآكل المدخرات بالليرة التركية والارتفاع الكبير بأسعار المواد الأساسية والخدمات.
وقد أكد الرئيس أن النموذج الذي ستتبعه حكومته يعتمد على خفض سعر الفائدة، بما يشجع رجال الأعمال على الاقتراض بنسب مقبولة، وبالتالي وضع ذلك في سلسلة التصنيع والإنتاج والتصدير، ما يزيد من نسبة الاستخدام ويقلل من البطالة، وبالتالي تكون النتيجة النهائية تسيير وتسريع عجلة الإنتاج، كما تضمنت كلمة «أردوغان»، وكلمات سابقة له ولمسؤولين آخرين منهم وزير الخزانة والمالية الجديد «نور الدين نباتي»، أن المرحلة الانتقالية قد تشهد آثاراً جانبية لهذه السياسة، لكنه ينتظر أن تؤتي الأخيرة أكلها خلال أشهر قليلة فقط ليشعر المواطن بنتائجها الإيجابية.
إضافة لذلك، فقد شملت كلمة الرئيس التركي كلمات قاسية ولهجة حادة في مواجهة بعض الأطراف الرافضة لهذه السياسة؛ خارجياً وداخلياً، وفي مقدمتها جمعية رجال الأعمال والمصنّعين الأتراك (توسياد)، التي قال: إنها لن تستطيع «مواجهة الحكومة».
في المقابل، ولتخفيف حدة الآثار السلبية لتراجع سعر صرف الليرة على المواطنين، فقد أعلن «أردوغان» عن حزمة من الإجراءات والقرارات، كان قد سبقها قبل ذلك بأيام رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة تصل لزهاء 50%، ولعل أهم تلك السياسات الجديدة أمران؛ الأول: تقديم ضمانات للمودعين بالليرة بحيث تدفع لهم خزينة الدولة الفارق بين نسبة الفائدة التي أودعوا بها أموالهم ونسبة تراجع سعر صرف الليرة (في حال تراجعت كثيراً كما حصل مؤخراً)، بما يحول دون استمرار تحويل الودائع للعملات الأجنبية أو «الدولرة»، وبالتالي يخفف من سرعة تراجع قيمة الليرة، والثاني: دعم المصدّرين الأتراك وتحديد سعر معين لليرة مقابل الدولار للتصدير الخارجي، بحيث يسهل عملهم ويتجنبون الخسارة.
تأثيرات وتحذيرات
بعد الخطاب مباشرة، بدأت الليرة بالتعافي السريع والمفاجئ مقابل العملات الأجنبية، لتصل إلى 11.7 ليرة مقابل الدولار، حتى كتابة هذا التقرير.
أرجِعَ ذلك إلى ارتفاع ثقة المواطنين ورجال الأعمال بالليرة بعد الضمانات التي قدمتها الحكومة، وإلى الثقة أكثر بالاقتصاد بعد زيادة درجة الوضوح بما يتعلق بالخطوات المستقبلية، وبعض المضاربات التي عمدت للاستفادة من التحسن النسبي لسعر الصرف، ولكن أيضاً للتدخل الحكومي غير المباشر عبر بعض المصارف الحكومية التي ضخت مليارات الدولارات في السوق، بحيث يساهم ذلك بشكل مباشر في تحسن الليرة ويعطي انطباعاً بتقبل سياسة الحكومة الجديدة والثقة بها والتفاعل معها بشكل سريع جداً.
قلل هذا التطور الأخير كثيراً من المخاوف بشأن قيمة الليرة وباقي المؤشرات الاقتصادية، وأعطى انطباعاً بأن «أردوغان» وحكومته يملكان في جعبتهما أدوات يمكن أن تساهم في ضبط الوضع؛ ما يعني أن الليرة لن تترك بالكلية للتداول الحر والمضاربات وبالتالي السقوط الحر.
لكن في المقابل، انتقدت أحزاب المعارضة هذه الخطوة، قائلة: إنها تزيد العبء على خزينة الدولة ولا سيما إذا ما تراجع سعر الصرف، وإن التعويض المالي الذي ستقدمه الحكومة للمودعين سيخرج من جيوب المواطنين العاديين، أو إن «الحكومة ستدعم الأغنياء من جيوب الفقراء»، كما قالت؛ ولذلك فقد كررت المعارضة مطالباتها بتبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وإجرائها فوراً لتفادي تداعيات اقتصادية سلبية إضافية.
بعض الاقتصاديين، وإن امتدح الخطوة، أشار إلى بعض التحديات، وفي مقدمتها مدى وثوق الناس بالقرارات الجديدة والتفاعل معها خلال الأيام والأسابيع التالية لها، ومدى ارتياح المودعين للنظام الجديد بعد تجربته أول ثلاثة شهور، والأعباء الإضافية التي يلقيها هذا النموذج على خزينة الدولة، ومدى قدرة الدولة على الإيفاء بهذه الالتزامات في حال تراجع سعر الصرف بشكل كبير ولا سيما في ظل حدوث مضاربات كبيرة خارج إرادة الحكومة وأحياناً لأهداف سياسية للضغط على الأخيرة.
وفي كل الأحوال، ستكون الشهور القليلة القادمة مفصلية في تقييم الخطة الحكومية وارتداداتها على المواطنين سلباً وإيجاباً، إذ إن الكل متفق -كما أسلفنا- على أن الاقتصاد، وفي القلب منه قيمة الليرة وارتدادات كل ذلك على حياة المواطن اليومية، سيكون العنوان الأبرز للانتخابات المقبلة، والمعيار الأهم للناخب لدى التصويت في هذه الانتخابات المصيرية.