الاقتصاد لا ينفصم عن واقع حياة الناس؛ فهو أساس معايشهم وتحقيق الحياة الطيبة لهم، وقد اهتم القرآن الكريم كتاب الله تعالى الشامل الجامع لأمور الدنيا والآخرة بالاقتصاد، ودلت الكثير من آياته على النشاط الاقتصادي وآلياته إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، وفي هذا الإطار تأتي هذه المقالات من خلال منهج علمي يعتمد على النظرة الاقتصادية في سور القرآن الكريم سورة سورة، مع ربط الآيات الاقتصادية، دون غيرها، في كل سورة ببعضها بعضاً.
ونظراً لأن «الفاتحة» هي أم الكتاب، فقد آثرنا أن تتجه النظرات الاقتصادية لكل آياتها استثناء دون غيرها من السور.
«الفاتحة» سورة مكية وآياتها سبع، واستندت إجمالاً إلى الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلاً؛ لذا سميت «أم الكتاب»، وهي يعيش معها يومياً المسلم في فريضة الصلاة 17 مرة كل يوم وليلة بخلاف السنن، فهي تتكرر في كل ركعة من ركعات الصلاة؛ لذا سميت بالسبع المثاني؛ {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الحجر: 87).
و«الفاتحة» تبدأ بالبسملة، وسواء أكانت آية منها ومن كل سورة أم آية مستقلة في كل موضع، ذكرت فيه بدايات السور للفصل بينها؛ فالبسملة هي مفتاح الأعمال وبدايتها، فهي تذكير بما سخره الله تعالى للمسلم حينما يهم بكل سلوك اقتصادي إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً؛ فينسب الأمر كله لله تعالى، مستشعراً في بداية كل عمل نِعَم الرحمن الرحيم بخلقه؛ فيعيش في ظلال الرحمات التي تحيط به من كل جانب، ومن ثم يفيض قلبه وينطق لسانه بـ«الحمد الله رب العالمين» الذي خلق جميع الخلائق من السماء إلى الأرض، من الحيوان إلى النبات، ومن الملائكة إلى البشر، وتكفل بالرزق لعباده بغض النظر عن شكرهم أو كفرهم.
والحمد لله هي سمة السلوك الاقتصادي للمسلم بعد أن يبدأه بالبسملة التي تحول بين عمله وكل نقص؛ فقد روى النووي في الأذكار عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع»، فالمسلم يبدأ بسم الله كما بدأ نزول القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1)، ويسلك بها كل وجه من وجوه الحياة والمعاش، من أكل وشرب ونحر وركوب مركب وغير ذلك من الأفعال الاقتصادية، قال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 118)، {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (هود: 41)، وقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة: «قل: باسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك»، وفي صحيح أبو داود، وصححه الألباني: «إنَّ الشَّيطانَ ليستَحِلُّ الطَّعامَ الَّذي لم يُذكَرِ اسمُ اللَّهِ عليهِ»، وروى البخاري عن جابر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم الله».
كما أن المسلم إذا انتهى من سلوكه الاقتصادي كان لسانه رطباً بالحمد لله ثمرة لهذا السلوك، وقد روى مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها»، وروى أبو داود عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل طعاماً ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، قال: «ومن لبس ثوباً فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».
بين الحمد والرحمة
وبذلك تبدو منزلة «الحمد لله» في مغفرة الذنوب -بصفة يومية- في ممارسات المسلم الاقتصادية، كما تبدو رحمة الله الرحمن الرحيم في ثمرة هذا السلوك الاقتصادي، فما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها كما روى البيهقي عن الحسن رضي الله عنه، وقد روى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة، فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ»، وروى البخاري من حديث عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده»، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: «مَن المتكلم؟»، قال: أنا، قال: «رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول» (رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه).
إن حمد المسلم لله رب العالمين في سلوكه الاقتصادي في السراء والضراء.. في الغنم والغرم.. في الربح والخسارة هو ترسيخ لشكر الله واهب النعم.. المالك المدبر لأمور العالم كلها.. الحكيم فيما يصيب الإنسان من قدر نافذ، فالحمد لله منهج حياة، فإذا حقق التاجر أو رجل الأعمال المسلم ربحاً في نشاطه الاقتصادي كان حامداً لله تعالى الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا حقق خسارة لم يجزع أو يندب حظاً، ولكن يرجع بالأمر كله لله حمداً على كل حال، فقد روى ابن ماجة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال».
وحينما يربط المسلم الحمد بالله رب العالمين، فإنه يستشعر ويوقن قيمة الثناء لله فهو المالك المتصرف في هذا الكون كله؛ فهو سبحانه رب كل موجود سواه، والإنسان بماله وجاهه.. بروحه وجسده.. بحوله وقوته.. هو جزء من هذا العالم الفسيح الذي هو أقوى منه وأوسع مكاناً؛ {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (غافر: 57)، ومع ذلك سخر الله تعالى هذا الكون بين يديه؛ {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) ليعلم يقيناً أن كل نعمة في النفس وفي الآفاق منه سبحانه وحده المستحق بالحمد.
مفرق الطرق
إن الربوبية المطلقة لله رب العالمين هي مفرق الطرق بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظم الاقتصادية الوضعية؛ فرعاية الله حاضرة، وربوبيته قائمة في كونه، وما سخره للناس فيه، وما أرشدهم إليه، وليس كما حيدت الرأسمالية الأخلاق، وصورت الكون على أنه آلة حركها الله ثم تركها تدور بدون تدخل فـ«ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، والإنسان نتيجة ذلك هو إله على الأرض، وعلى أساس هذه المفاهيم المغلوطة نما نظام المنافسة الحرة، واعتبر تعظيم الربحية الحافز الرئيس للإنتاج، والمنفعة والإشباع، واللذة غاية الإنسان في هذه الحياة، وأبيح الربا، وقننت المقامرة، وأقر تفاوت الدخول بالاحتكار؛ فتفشى الفقر والطبقية والاستغلال بلا قيود، وانتشرت الحروب والتشرد والأزمات بلا حدود.
وفي المقابل، أنكرت الاشتراكية الرسالات السماوية، والإيمان بالغيب، وأعطت المادة صفات الألوهية، ووصفت الدين بأنه «أفيون الشعوب»، وتحولت إلى وحش مفترس يفتك بشعوبها وكرامتهم، ويجعلهم شركاء في الفقر، ولم يبق في نفوسهم سوى الكره والحقد وعدم المبالاة، حتى انتكست في عقر دارها.