السؤال الذي يدور على شفاه الجميع الآن: هل يذهب الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحرب ضد أوكرانيا؟ آلة الدعاية الروسية، وأباطرة وسائل الإعلام الروسي يتحدثون عن نصر في غضون 48 ساعة، والإجابة عندهم: “نعم” بشكل قاطع.
لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا، فبينما ينظر بوتين إلى أوكرانيا على أنها ليست أكثر من مقاطعة روسية، كما جادل في أطروحة تاريخية زائفة مطولة، في يوليو العام الماضي، إلا أنه ما زال ليس من الواضح إن كان هدفه الحقيقي هو الحرب، فالصراع المباشر -وليس الغارات المفاجئة أو العمليات السرية أو الحرب المختلطة– هو في الحقيقة أسلوب بوتين، ومن المحتمل أن تكون زيادة القوات، في نوفمبر الماضي، محاولة لإجبار الغرب على التخلي عن أي مطالبات بشأن أوكرانيا، لو حدث تخلٍّ غربي عن أوكرانيا، فسيكون ذلك انتصارًا عظيمًا بأقل التكاليف.
بدلاً من محاصرة أمريكا قام بوتين بمحاصرة نفسه وهو الآن عالق بين النزاع المسلح والتراجع المهين
لكن الغرب فهم الخدعة، ففي الأسبوع الماضي على وجه الخصوص، اتخذت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي نبرة أكثر حدة بشكل ملحوظ عند مناقشة روسيا، والأهم من ذلك، كان إرسال عتاد عسكري عبر أوروبا الشرقية ووضع القوات على أهبة الاستعداد، فالرسالة الآن واضحة: إذا صعدت روسيا فسيصعد الغرب، وإذا لم تهدأ روسيا من التصعيد فلن يهدأ الغرب أيضًا.
ولذلك، فبدلاً من محاصرة الولايات المتحدة، قام بوتين بمحاصرة نفسه، وهو الآن عالق بين النزاع المسلح والتراجع المهين، وهو يرى الآن أن مساحة المناورة تتضاءل لتصل إلى لا شيء، يمكنه الغزو والمجازفة بالهزيمة، ويمكنه التراجع، ولكنه ليس لديه ما يقدمه في سياسة حافة الهاوية، ما سيحدث بعد ذلك غير معروف، لكن هناك شيئاً واحداً واضحاً: فشل مقامرة بوتين.
قد لا يبدو واضحًا أن الكرملين، الذي حشد بشكل أكثر من 100 ألف جندي على الحدود الأوكرانية، منذ نوفمبر الماضي، لم يكن يهدف إلى الحرب، لكن أسباب الاعتقاد بأن روسيا ستتراجع عن الغزو عديدة، فبوتين -الذي لاحظت حذره الفطري عن كثب لمدة عقدين من الزمن- لديه سجل من الانسحابات عند ظهور أول بادرة على صراع حقيقي، فعندما قتلت القوات الأمريكية المرتزقة الروس في مذبحة مشهودة بسورية، عام 2018، على سبيل المثال، كانت لديه فرصة مثالية للرد، ولكنه وبدلاً من ذلك نفي وقوع المذبحة على الإطلاق.
وبالمثل، عندما ضربت الطائرات التركية بدون طيار المرتزقة والمعدات الروسية في ليبيا وسورية، لم تصدر حتى تغريدة تنكر ما حدث، والواقع أن بوتين أدرك تمامًا قوة تركيا لدرجة أنه لم يجرؤ حتى على الانضمام إلى أرمينيا عندما تعرضت للهجوم، في سبتمبر 2020، من قبل أذربيجان المدعومة من تركيا، وحتى بعد إرسال قواته إلى كازاخستان لفترة غير محددة، بدأ بوتين في سحبها بعد وقت قصير من تلقي وزير الخارجية الروسي مكالمة من نظيره الصيني.
عندما قتلت القوات الأمريكية المرتزقة الروس في مذبحة مشهودة بسورية عام 2018 كانت لدى بوتين فرصة للرد لكنه نفي وقوع المذبحة على الإطلاق
من الواضح أن العمليات العسكرية الروسية الكبرى الناجحة في عهد بوتين هي هزيمة جورجيا، في عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، وقد حدثتا عندما كان الغرب ينظر في الاتجاه الآخر، وفي كلتا الحالتين، كان العالم مشغولاً وكان يمكن لروسيا أن تكمل مخططاتها دون أي تهديد من معارضة دولية مسلحة، وهذا ليس الحال الآن.
علاوة على ذلك، لا توجد أسباب داخلية لخوض الحرب، نعم، انخفضت تقييمات بوتين وارتفعت الأسعار، لكن لا توجد اضطرابات داخلية كبيرة، ولم يتبق سوى عامين على الانتخابات، لا يحتاج بوتين مغامرة توسعية لدعم حكمه أو إلهاء الشعب عن مشكلاته، الحرب زر أحمر كبير يمكن الضغط عليه مرة واحدة فقط، والآن، ليست هناك حاجة.
ثم يأتي السبب الرئيس: روسيا ليست متأكدة من النصر، فهناك تحسن كبير في الجيش الأوكراني، بعد أن رفع مستوى معداته واستعداداته لمواجهة أي غزو بري، ومن المرجح أن تكون القوات الروسية المنتشرة بالقرب من الحدود غير كافية لغزو البلاد، رغم أنه وبسبب حجمه الضخم، قد يكون الجيش الروسي قادرًا على التقدم: ولكن الكمية لها صفة خاصة بها، كما ذكر ستالين، ومن المؤكد أن ذلك سيأتي على حساب خسائر فادحة في الأرواح البشرية.
ولكن إذا كان لديه القليل من النية للغزو، فلماذا رفع بوتين المخاطر إلى هذه الدرجة؟ الجواب بسيط: أفغانستان، فالانسحاب الكارثي للغرب من أفغانستان، في أغسطس العام الماضي، يشير إلى تراجع شهية الولايات المتحدة للتورط في الخارج، ولهذا تشجّع بوتين، وقرر أن الوقت مناسب للضغط من أجل مراجعة نظام ما بعد الحرب الباردة، وهذا تنبؤ خاطئ لبوتين لعدم امتلاكه أوراق المساومة المعتادة؛ لا اقتصاد سليم، ولا أسلحة متفوقة، ولا أتباع متعصبون.
عندما ضربت الطائرات التركية المرتزقة والمعدات الروسية في ليبيا وسورية لم تصدر حتى تغريدة روسية للتعليق على ما حدث
وقد كانت تلك المطالب، التي نُشرت في شكل معاهدة وهمية في ديسمبر الماضي، سخيفة في كثير من الحالات، إن دعوة “الناتو” لسحب قواته من دول أعضاء فيه في أوروبا الشرقية، على سبيل المثال، لا يمكن أن تُلبى أبدًا، وقد كان الطلب الأساسي -أن يرفض “الناتو” عضوية أوكرانيا- سخيفًا، ولكن بطريقة مختلفة، حيث لم تكن هناك فرصة لأن تصبح أوكرانيا عضواً في أي وقت قريب، لكن هذه كانت وجهة نظر بوتين، فمن خلال المطالبة بشيء واقع بالفعل، سعى بوتين إلى إعلان الانتصار وهمي على الغرب.
لكن الولايات المتحدة، بدلاً من الخضوع، ذهبت في الاتجاه الآخر وبدأت في تسليح أوكرانيا، فيوم الأربعاء ردت رسميًا على مطالب بوتين، لا نعرف بالضبط طبيعة الرد، لكن وزير الخارجية أنطوني بلينكن أوضح أنه لن تكون هناك تنازلات.
لذا، فبوتين عالق، فخياراته محدودة، يمكنه أن يطالب الغرب بوقف إمداداته العسكرية، قد ينفس عن إحباطاته بمزيد من الضغط على المعارضة، في الوقت الذي يسعى فيه إلى تصوير روسيا على أنها ضحية للغرب الشرير، أو يمكنه اختبار الوضع باستفزاز يمكن إنكاره يقوم به مواطنون روس مفترضون، أولئك الذين أطلق عليهم بوتين ذات مرة “عمال مناجم الفحم وسائقو الجرارات”، قد تكون هذه طريقة صغيرة لحفظ ماء الوجه، لكنها قد تخرج عن نطاق السيطرة بسهولة، إن مخاطر نشوب حرب صريحة مخاطر هائلة.
بوتين أدرك قوة تركيا لدرجة أنه لم يجرؤ حتى على الانضمام إلى أرمينيا عندما تعرضت للهجوم من أذربيجان
هناك، ربما، يقين واحد يجب التمسك به؛ بوتين لن يبدأ حربًا من المحتمل أن يخسرها، لذا فإن الطريقة الوحيدة لضمان السلام هي ضمان أن بوتين لن يفوز أبدًا في المواجهة العسكرية.
___________________________
(*) صحفية تكتب تقارير مكثفة عن روسيا وسياستها الخارجية.
المصدر: “نيويورك تايمز”.