شاء الله تعالى أن يكون الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية للحديث، فقد روى أكثر من خمسة آلاف حديث، ومنكرو السُّنَّة يكرهون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الرواة كراهية عندهم؛ لأنه نقل هذا الكم الكبير من الأحاديث، فأخذوا يصوبون سهامهم نحوه كي يصيبوه في مقتل، ويبطلوا بإصابته حجية هذه الأحاديث التي رواها، وكان قصارى ما وجهوه إليه من عيوب: أنه كان أُمَّياً لا يقرأ ولا يكتب، وأن إسلامه تأخر إلى ما بعد خيبر في العام السابع الهجري، وأنه كان عرضة لطعن الصحابة فيه، وردهم لروايته، وأنه “وضَّاع” للحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مريضاً بالصرع، خفيف العقل!
بيان بطلان هذه الشبهة وإسقاطها
أولاً: ينبغي أن نؤكد أن الهدف من وراء هذه الانتقادات هو إسقاط أكثر الرواة سماعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليسرى هذا “الإسقاط” من الراوي إلى “المروي” وهو المطلوب، وقد كان أول من طعن في أبي هريرة رضي الله عنه هم المستشرقون وبخاصة جولد زيهر اليهودي الأصل(1)، ثم سار على نهجه أحمد أمين في كتابه “فجر الإسلام” في المبحث الذي كتبه عن الحديث النبوي ثم أبو رية في كتابه “أضواء على السُّنَّة المحمدية”، ثم حملة الأقلام المأجورة التي تكتب في الصحف الصفراء و”دكاكين” الفضائيات في ظل نظام عالمي يرعى كل ناعق يهاجم الإسلام والمسلمين.
ثانياً: ما ذكره هؤلاء من أمية أبي هريرة رضي الله عنه، ليس نقصاً فيه، فقد كانت الأمية هي طابع العرب قبل الإسلام، واستمر وجودها بعد الإسلام إلى فترة ما وهذه الأمية كانت من تدبير الله الحكيم لأمرين:
الأول: اعتماد العرب على الذاكرة، فبلغوا في الحفظ الذهني لبعض المعارف كالأنساب، والشعر، وأيام العرب مبلغاً لم تبلغه أمة سواهم، لأن الحفظ الذهني كان وسيلتهم الغالبة على ضبط واستحضار ما يحتاجون إليه في حياتهم، والملكات النفسية تنمو بالممارسة، ولو كان العرب يقرأون ويكتبون لضعفت عندهم هذه الملكة، والشواهد على ذلك كثيرة، فمن تعود على القراءة بالنظارة يعجز عن قراءة كلمة واحدة بدونها، والذي يتعاطى مهدئاً لينام ويصبح له هذا التعاطي عادة، لا يذوق النوم بدونه مهما طال السهر، فالعرب كانت موهبتهم المعروفة هي قوة الذاكرة والحفظ، فكانوا خزائن معرفة تتحرك على الأرض.
الثاني: وفي تلك الأمية خدمة لقضية الإعجاز القرآني، وقطع لألسنة الحقد، إذ لو كان العرب يقرأون ويكتبون لكان لقول خصوم الإسلام في تحديد مصدر بشري للقرآن (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) “النحل:103” شبهة تقوي هذا الزعم؛ لأن نبوغ فرد من أمة ذات حضارة علمية ظاهرة لا ينازع فيها، فقد أراد الله عز وجل أن يهيئ الأسباب لتلك الأمة الأمية فيُعَلِم هو سبحانه وتعالى واحداً منهم ليعلمهم مما علمه الله؛ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129)، لقد أراد الله لهذه الأمة أن يكون هو معلمها ومعلم رسولها صلى الله عليه وسلم، فلم تكن أمة ذات حضارة موروثة عن الآباء والأجداد، بل أمة وليدة، ولدت معها حضارتها السامية بوحي من السماء، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة: 2).
أما تأخر إسلامه فلا عيب فيه، إنما العيب كان ألا يُسلم، وقد أسلم وحسن إسلامه، فكان من شيوخ العلم وشيوخ العبادة في آن واحد، كريم القلب واليد مع قلة ما كان يملك، وبإسلامه بدل الله تعالى كل سيئاته حال كفره حسنات وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، وهو القائل: (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان: 70)، وهم يستكثرون أن يروي أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القدر من الحديث في أربع سنوات فقط صاحبه فيها، ويريدون من هذا أن يقولوا: إنه نَسَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله أو يسمعه منه، ومنكرو السُّنَّة، حين يتهمون أبا هريرة هذا الاتهام يفصلون أنفسهم عن الواقع المعروف في حياة أبي هريرة، فكان الرجل مصاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم خارج بيوته، حريصاً على السماع منه بل كان ملازماً له، على أن هذه الكثرة المروية عن أبي هريرة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قوبلت بعدد أيام السنين الأربع التي عاشها مسلماً في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كان متوسط اليوم الواحد أربعة أحاديث، وليس في هذا غرابة يُلام عليها أبو هريرة، ويُتهم بالكذب على رسول الله الكريم من أجلها.
ولم يكن أبو هريرة عرضة لطعن الصحابة فيه، ولا ردَّ حديثه أحدٌ منهم، كما يدَّعي المستشرقون وأذيالهم من منكري السُّنَّة، بل إن الصحابة الكرام، أثنوا عليه، قال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: “والله ما نشك أن أبا هريرة قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكيناً لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث ما دار، فما شك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع”(2)، وقال الإمام الشافعي: “أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره”، وقال ابن حجر: “أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثاً”(3)، وقد شهد له الإمام الذهبي قائلاً: “كان أبو هريرة وثيق الحفظ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث”(4).
هذا هو ثناء الصحابة والعلماء على أبي هريرة؛ ولذلك نتساءل: من أين استقى المستشرقون هذه المعلومات عن أبي هريرة، ولم تكن لهم مراجع غير المراجع العربية الإسلامية، ولم تخل هذه المراجع من الطعن في أبي هريرة فحسب، بل هي عامرة بالثناء عليه، وعلى دوره في رواية الحديث النبوي أليس هذا هو الكذب؟
أما رد حديث أبي هريرة من إخوانه الصحابة فلم يحدث قط، وما حدث من عبد الله بن عمر، وابن عباس في مراجعة أبي هريرة ظاهرة طيبة تُحمد للصحابة فهم يتذاكرون الحديث، ويُذكر بعضهم بعضاً، وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه راجعه مرة، فذكر له أبو هريرة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ”. فأذن له عمر بالتحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما روى من منعه أو ضربه على كثرة التحديث فهذا لم يثبت، وهو كذب صرحاء.
أما اتهام أبي هريرة بالصرع وخفة العقل، فهذا رجم بالغيب، ووسوسة شيطان، ليس لها من الواقع سند، ومن المعروف أن أبا هريرة كان كثيراً ما يتلوى من الجوع، ويصيبه دوار طارئ، فالتقط المستشرقون وأذنابهم هذه الرواية وهولوا من شأنها، وجعلوها صرعاً قاتلاً، وخفة عقل مزرية، ولا عجب، فقد رمى هؤلاء من هو أعلى مقاماً، وأجل شأناً من أبي هريرة بهذه العيوب، فقد رموا بها النبي صلى الله عليه وسلم، حين كان يأتيه الوحي من السماء فيقبل عليه بكل مشاعره وحواسه ليتلقى القرآن من لدن حكيم حميد، فإذا انقضى الوحي عاد فأملى من حوله من كتبة الوحي ما نزل من القرآن الكريم، فبمَ فسر هؤلاء هذه الحالة؟ فسروها بالصرع أو المرض العضوي الذي يصيب بعض الناس فيفقدهم الوعي الظاهر والباطن، أو الوعي الخارجي والداخلي(5).
__________________________________
(1) جولد زيهر (1266 – 1340ه / 1850 – 1921م) هو مستشرق يهودي مجري عُرف بنقده للإسلام وبجدية كتاباته، ومن محرري دائرة المعارف الإسلامية، ولقد اشتهر بغزارة إنتاجه عن الإسلام حتى عُد من أهم المستشرقين لكثرة إسهامه وتحقيقاته عن الإسلام ورجاله، متأثراً في كل ذلك بيهوديته، وهو أبرز من قام بمحاولة واسعة وشاملة لنسف السيرة النبوية.
(2) أخرجه الترمذي في المناقب، ح (3837)، ص 5/ 684.
(3) الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي (7/ 432: 434).
(4) سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط – (2/ 621).
(5) كتاب “الظاهرة القرآنية”، مالك بن نبي، 1/ 104.