لا يحتاج زائر الأغوار لعظيم الجهد لاكتشاف تناقض أشكال الحياة بين المستوطنين والفلسطينيين في الزراعة والبناء والتعليم والمياه والترفيه وحق الملكية والصحة، في مستوى متفوق يعكس طابع الهيمنة والتفرقة العنصرية الجارية في الأراضي الفلسطينية بشكل عام.
وتظهر تلك الفروقات والتناقضات في حجم التوسع العمراني للمستوطنات ورقي منازلها وتطور المستوطنات الزراعية فيها، في حين يمنع الفلسطيني من بناء المنازل أو المدارس وغيرها من المنشآت أو حتى تطويرها، إضافة للتضييق على المزارعين بمنع حفر الآبار ومصادرة الأراضي، وغيرها من ممارسات الضغط على الوجود الفلسطيني في الأغوار.
وتحتل الأغوار 28.5% من مساحة الضفة الغربية، ووفق دراسة لمركز العمل التنموي “معا”، أظهرت تميز المنطقة بالتربة الخصبة والمناخ المعتدل والمياه الوفيرة، كعناصر تشكل فرصةً ثمينة للشعب الفلسطيني للازدهار الزراعي والاقتصادي والسياسي.
إلا أن اتفاق أوسلو ومكوناته الأمنية، جعلت 95% من أراضي الأغوار ضمن حدود منطقة “ج”، مما شكل تعزيزاً لهيمنة الاحتلال المطلقة على المنطقة من النواحي العسكرية والمدنية كافة.
ويجمع مختصون على أن المجلس الإقليمي لمستوطنات الأغوار وبحكم وقوف الحكومات المتعاقبة خلفه بالدعم والإسناد، بات يشكل حكومة مصغرة تملك كافة الصلاحيات في الملاحقة والهدم والمصادرة وتنغيص أشكال الحياة لسكان الأغوار.
تشجيع الاستيطان
مدير مركز أبحاث الأراضي في نابلس محمود الصيفي يشير إلى أن الاحتلال استخدم الإغراء بالتسهيلات المالية والحوافز لتشجيع الاستيطان في الأغوار، موضحًا أنها تجلت باعتبار مستوطنات غور الأردن منطقة ذات أولوية وطنية بفوائد خاصة تحت مظلة القانون “الإسرائيلي”، وتفضيلهم على “مواطني إسرائيل”.
ويضيف الصيفي أنه بالرغم من كون الضفة منطقة محتلة، فإن “إسرائيل” تعرفها بمنطقة ذات أولوية وطنية، ما يجعل الحكومة تركز على تقديم معونات كبيرة للمستوطنين في السكن والتعليم والصناعة والزراعة والميزات السياحية مقابل استمرار بقائهم في تلك المناطق.
وعن دور اللجان التنظيمية في المستوطنات، يقول: إنها تقوم على تقديم الخدمات التي يتم التزود بها من المجالس الإقليمية أو الحكومة “الإسرائيلية” لصالح المستوطنين.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل تتلقى المستوطنات مساعدات ومنح مالية من مؤسسات مستقلة كالمنظمات الأمريكية الصهيونية، مثل الصندوق “الإسرائيلي” الموحّد، وصندوق تطوير غور الأردن، وصندوق أطفال “إسرائيل” “شيلو”، وتنهال على المستوطنين هناك كل وسائل الدعم لتوفر لهم حياة أكثر رفاهية، بشكل يفوق حال الفلسطينيين الذين يعيشون بجوارهم، بحسب الصيفي.
دعم فلسطيني “صفري”
الناشط ضد الاستيطان في الأغوار حمزة الزبيدات، يشير لزيادة الفجوة في التناقضات في الحياة في الأغوار، موضحًا أن مؤشر الفجوة ارتفع منذ العام 2012 بشكل لافت لصالح المنهجية الاستيطانية المدعومة، حيث تقف الحكومة “الإسرائيلية” خلف تلك التناقضات، وبميزانيات خاصة لوزارتي الزراعة والإسكان.
ويتابع الزبيدات أن الدعم الحكومي الرسمي يدفع باتجاه تطوير وحماية الوجود “الإسرائيلي” في منطقة يعترف العالم بأنها محتلة، تنمو فيها المشاريع الاستيطانية، ويتم تهويد الأرض فيها بشكل مجنون، بينما الدعم الحكومي الفلسطيني للوجود الفلسطيني في المناطق المصنفة “ج” صفري الحضور والتأثير والدعم.
ويمضي بالقول: الرؤية “الإسرائيلية” ومخططاتها تصل للعام 2030 بمضاعفة أعداد المستوطنين من 12600 مستوطن للضعف، وبناء المزيد من المستوطنات وتحويل البؤر لمستوطنات، وقد تم اعتماد ثلاثة منها كمستوطنات، ومثالها “سلعيت” قرب “محولا” شمالا و”مفوفوت يريحو” جنوباً.
وتدعم وزارة الأشغال والإسكان “الإسرائيلية”، تبعًا للصيفي، توفير منح للمستوطنين تغطي حتى 50% من تكاليف بناء بيت أو شراء شقة، بينما تساهم وزارة الصناعة والتجارة في توفير منح بقيمة 15-20% في القطاع السياحي.
ويزيد: الدعم الحكومي المغري شجع الكثيرين من المتعلمين في المستوطنات على التوجه لسلك التعليم، حيث يعمل 25% منهم في التعليم مقارنة مع 13% في “إسرائيل”، وتتميز المدارس بأنها مجهزة وفق أحدث المواصفات، حيث تنال حظها من الدعم الحكومي للمؤسسات العامة والخاصة في المستوطنات.
من ناحيته، يشير الناشط ضد الاستيطان عارف دراغمة لوجود امتيازات خاصة بالمستوطنات، تتوزع من خلال 6 وزارات وهي البناء والإسكان، الحكم المحلي، التعليم، التجارة والصناعة، العمال، والشؤون الاجتماعية، إضافة إلى أحزاب سياسية مستقلة.
ويضرب الناشط “دراغمة” مثالاً على تناقض الحياة بين الفلسطيني والمستوطنة بقرية الزبيدات التي يعيش فيها 2000 نسمة، على مساحة تقارب مائة دونم فقط، محصورين في حياة تشبه الكانتون المصغر، ومحاطة بالمعسكرات والمناطق المغلقة وشارع استيطاني مركزي.
وعن معاناة الأهالي هناك يتحدث دراغمة: المدارس غير مناسبة وقديمة تحتاج التطوير، في مقابل كليات دينية ومدارس ورياض أطفال حديثة للمستوطنين في الفارسية، وكأنها فنادق 5 نجوم، في الوقت الذي يتوجه الخريجين من البلدة للعمل في المستوطنات والمزارع المتهاوية في المنطقة.
ويتفق دراغمة مع الصيفي بشأن اعتبار مجلس المستوطنات حكومة “إسرائيلية” مصغرة، مضيفًا أنه مَنح كامل الصلاحيات في بناء المزيد من المستوطنات والبؤر والتطوير، ويقود حملة بنيامين نتنياهو (زعيم المعارضة) لبناء مدينة استيطانية جديدة في الأغوار، تم تحديد موقعها في الفارسية، وشرع ببناء مجمعات استيطانية وأنوية بناء مدارس حديثة.
ويسهب دراغمة في سرد تناقضات الحياة هناك: المواصلات والاتصالات في الأغوار مجانية للمستوطنين وقد باتت قبلة لزيارات المسؤولين، في المقابل يدفع الفلسطيني في الأغوار فاتورة باهظة لقبضه على جمرة التعليم والبقاء.
ويختم بالقول: باتت الأغوار في قبضة الاحتلال الذي زرع في جنباتها 36 مستوطنة و22 معسكراً وضم 80 ألف دونم تحت مسمى أراضي مغلقة، ونفذ عمليات تهجير قسرية، وأنهى وجود 45 قرية وخربة، ونفذ مؤخرا تهجير حمصة الفوقة في الأغوار الشمالية، وتجمع الوادي الأحمر فصايل بالكامل، ما يعني فقدان حياة البادية بمخططات منذ عام 1967، ما جعل الوضع الحالي يوصف بسجن كبير دون منافذ ونوافذ.