العلامة القرضاوي بحر كبير لا شاطئ له من العلم والمعرفة، والاجتهاد والفقه والدعوة إلى الإسلام، ويكفي ما قاله عنه أستاذه وأستاذ الجيل الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، في ندوة حضرها جمع كبير من العلماء، منذ عقود، حيث قال: “الحقيقة الشيخ يوسف، أشهد له، هذا رجل من أئمة الفقه، والحديث، والأصول، والاجتهاد، والأدب، والشعر، ومجموعة كفايات جعلها الله في رجل واحد، وينصح الأمة، أنا والله وراءه في الكلام الذي قاله كله، وأنا أؤيده فيه كلمة كلمة”. وقال عنه أيضًا: “القرضاوي من أئمة العصر، لقد سبق سبقًا بعيدًا، الشيخ يوسف كان تلميذي، أما الآن فأنا تلميذه”.
وقال عنه الشيخ علي الصلابي: “إن الوسطية والاعتدال سمتان بارزتان للشيخ الجليل، فضلاً عن امتلاكه مصادر القوة، التي تمثلت في الإعلام، حيث كان الشيخ القرضاوي يُربي شباب الإسلام على التمسك بالدين وبقيمه وضوابطه، واعتماد الحوار بالكلمة الحسنة سبيلاً للتعامل مع المخالفين، كانت من أهم عوامل القوة التي امتلكها الشيخ القرضاوي والتي أسهم من خلالها في نحت ما أصبح يعرف بمدرسة الوسطية والاعتدال التي أقضت مضاجع الطغاة في مختلف أصقاع عالمنا المعاصر”.
عاش من أجل الإسلام والدعوة إليه
أفضل تعبير عن امتزاج روح الشيخ بالإسلام، وحرصه على الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، ما قاله، رحمه الله، في رسالة مسجّلة أثناء مرضه الأخير قبل وفاته: “لا حياة لنا إلا بهذا الدين والدعوة إليه، وإشاعته في العالم، مشارقه ومغاربه”، مؤكدًا أن هذه الأمة تحمل رسالة العلم والرحمة للعالم كله.
لقد جمع الشيخ، رحمه الله، كل المجالات المتعلقة بالتعريف بالإسلام عن طريق التأليف العلمي، والدعوة والتوجيه، والفقه والفتوى، والمؤتمرات والندوات، والزيارات والمحاضرات، والمشاركة في عضوية المجالس والمؤسسات، والاقتصاد الإسلامي، والعمل الاجتماعي، وترشيد الصحوة، والعمل الحركي والجهادي. كل ذلك كان في عقل وقلب وقول الإمام القرضاوي، رحمة الله عليه.
فالعلامة القرضاوي، أحد أعلام الإسلام البارزين في العصر الحاضر والمؤثرين، في العلم والفكر والدعوة والجهاد، في العالم الإسلامي مشرقه ومغربه، ولا يوجد مسلم معاصر إلا التقى به قارئًا لكتاب من كتبه، أو رسالة، أو مقالة، أو فتوى، أو مستمعًا إلى محاضرة، أو خطبة، أو درس، أو حديث، أو جواب، في جامع أو جامعة، أو نادٍ، أو إذاعة، أو تلفاز، أو شريط، أو غير ذلك.
الوسطية ديدنه وأسلوب حياته
النشأة التي نشأ فيها العلامة القرضاوي، رحمه الله، في محراب الأزهر الشريف، وبدايات الحركة الإسلامية في القرن الماضي، هيأت له جوًا مناسبًا لكي يتشرب الوسطية في المنهج والتفكير في مسيرته العلمية الزاخرة، ومحاضراته المؤثرة، بل أصبح إمامًا لا نظير له في الوسطية ونبذ العنف، مثلما كان شيخه محمد الغزالي، رحمه الله.
ولعل العديد من كتبه التي تربو على 170 كتابًا، تعبّر بشكل مباشر عن هذه الوسطية، منها على سبيل المثال: “الحلال والحرام في الإسلام”، و”الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف”، و”الفتوى بين الانضباط والتسيب”، و”كلمات في الوسطية ومعالمها”، و”ظاهرة الغلو في التكفير”، و”الخصائص العامة للإسلام”، و”فقه اللهو والترويح”.
وأستطيع أن أجزم بأن هذه الوسطية كانت أسلوبه الدائم في كل مؤلفاته، وطريقته المثلى في كل خطبه، ومحاضراته، ومقالاته، فلم يكن في وقت من الأوقات داعيًا لعنف أو إرهاب، كما يدّعي المغرضون، بل تجده في أحلك الظروف والأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية، داعيًا إلى الوسطية في المعالجة، ونابذًا لكل عنف في الأسلوب والمنهج والطريقة.
لقد شهد له العلماء والمفكرون في كل أنحاء المعمورة، حتى المنصفون الذين اختلفوا معه في بعض القضايا الفرعية، بأنه إمام الوسطية والاعتدال في العصر الحديث.
وتحدث الشيخ القرضاوي بنفسه عن مفهومه للوسطية في كتابه الذي صدر عن المركز العالمي للوسطية في الكويت بعنوان: “كلمات في الوسطية ومعالمها”، حيث تتبع الشيخ، رحمه الله، صلته بالوسطية مبينًا أن الله تعالى أكرمه بتبني هذا التيار الوسطي من سنوات طويلة، ولم يكن ذلك اعتباطًا ولا تقليدًا لأحد أو اتباعًا لهوى، ولكن لما قام عنده من الدلائل الناصعة والبراهين القاطعة على أن هذا المنهج هو الذي يُعبِّر عن حقيقة الإسلام.
فلا يعني به إسلام بلد من البلدان، ولا فرقة من الفرق، ولا مذهب من المذاهب، ولا جماعة من الجماعات، ولا عصر من العصور، وإنما يقصد به الإسلام الأول قبل أن تشوبه الشوائب، وتلحق به الزوائد والمبتدعات، وتُكدِّر صفاءه الخلافات المفرِّقة للأمة، ويصيبه رذاذٌ من نِحل الأمم التي دخلت فيه، وتلتصق به أفكار دخيلة عليه وثقافات غريبة عنه. وزاد تأكيده لهذا المنهج وتركيزه عليه ما لمسه من الضرورة إليه منذ مطلع الصحوة الإسلامية المعاصرة أوائل السبعينيات من القرن العشرين.
ثم يدّعي بعد ذلك بعض الغلاة أو المدّعين للدعوة، أن الشيخ يدعو إلى الانحلال من الدين، وخصوصًا التعليقات، والمؤلفات التي صدرت ردًا على كتابه “الحلال والحرام في الإسلام”، واتهمه بعض المتشددين بأنه لم يُحرّم شيئًا، ونعتوا كتابه بـ “الحلال والحلال في الإسلام”!
موسوعة مجدد الفقه والدعوة في العصر الحاضر
جمعت موسوعة العلامة يوسف القرضاوي “ريادة علمية وفكرية وعطاء دعوي وإصلاحي”، المكونة من خمسة مجلدات، الصادرة عن وزارة الأوقاف القطرية؛ بمناسبة بلوغه سن التسعين العديد من الأبحاث والمقالات عن الشيخ وفكره وفقهه، ومواقف دعوية، كتبها كبار العلماء، وتلاميذ الشيخ، ومحبيه من أنحاء العالم الإسلامي، وكان لي شرف المساهمة فيها ببحث بعنوان: “البعد الأخلاقي في فقه الشيخ القرضاوي”، لذا أنصح كل من أراد معرفة كل الأبعاد العلمية المتعلقة بفكر وفقه الشيخ، رحمه الله، الحرص على اقتناء هذه الموسوعة.
والشيخ، رحمه الله، كان حريصًا تمام الحرص على إخراج موسوعته الجامعة (الأعمال الكاملة)، التي تحتوي على جميع مؤلفاته ومقالاته، ومحاضراته، في (105) مجلدات، مصنفة بشكل علمي رصين، والتي عمل عليها لسنوات قبل وفاته. وتأتي هذه الأعمال في أكثر من (75) ألف صفحة، موزعة على (13) محورًا، وهي:
المحور الأول: التعريف العام بالإسلام.
المحور الثاني: العقيدة.
المحور الثالث: الفقه وأصوله.
المحور الرابع: الفتاوى.
المحور الخامس: القرآن وعلومه وتفسيره.
المحور السادس: السنة النبوية وعلومها.
المحور السابع: فقه الأمة ودعوتها وصحوتها وحركتها الإسلامية.
المحور الثامن: التاريخ والشخصيات الإسلامية.
المحور التاسع: الشعر والأدب والحوار.
المحور العاشر: نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام.
المحور الحادي عشر: خطب الجمعة.
المحور الثاني عشر: المحاضرات.
المحور الثالث عشر: رسائل ترشيد الصحوة.
وأعتقد أن هذه الموسوعة ستشكل بعد صدورها وظهورها للنور القواعد العلمية الرصينة في الفقه والاجتهاد، وفروع الإسلام العامة والخاصة بمحاورها المختلفة، وسيستفيد منها كل العلماء، والفقهاء، والدعاة، والعاملين للإسلام في كل أنحاء العالم. وأتمنى أن تترجم هذه الموسوعة إلى العديد من اللغات الرئيسة حتى تنتفع بها البشرية جمعاء.
وأدعو كل المؤسسات العلمائية في العالم الإسلامي والغرب إلى عقد مؤتمر سنوي للتعريف بجهود الشيخ في تجديد الفقه والاجتهاد، والدعوة إلى الله بالوسطية التي هي شعار الإسلام الأصيل، والتي كانت ديدنه في كل أعماله.
كما أدعو العلماء ومحبي الشيخ، ورواد الوسطية، والمفكرين في كل أنحاء العالم إلى تأسيس “مؤسسة العلامة القرضاوي في التجديد والاجتهاد وبناء العلماء”، على أن تكون وقفية، وأن تكون أهم خصائصها الاستقلالية التامة عن أي توجه سياسي، أو هوى سلطان، ويكون لها فروع عديدة في أنحاء العالم.
رحم الله العلامة الإمام القرضاوي، رحمة واسعة، وعوّض الأمة عن فقده خيرًا، ونفعنا بعلمه وفقهه، وجعل جهوده وجهاده في ميزان حسناته يوم القيامة، وأجزل لهم المثوبة والأجر، وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا، وجمعنا به مع الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، في مستقر رحمته، ودار كرامته، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن “عربي21”.
موقع إلكتروني: www.gamalnassar.com