استيقظت الخرطوم، صباح السبت 15 أبريل 2023، على أصوات الذخائر والقصف، وأسرعت السيارات في الطرق تحاول النجاة، وقوات الجيش تغلق الجسور الرابطة بين العاصمة المثلثة، وارتفعت سحب الدخان المتناثرة لتملأ سماء الخرطوم لتعلن بداية للقتال بين قوات الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، بالسودان.
الميلاد
لقد كانت هذه الاشتباكات التي اتسعت لتشكل حرباً في الخرطوم وبعض الولايات نتيجة متوقعة وحتمية لصراع سياسي وأمني بين القوتين، بدأ منذ فترة الرئيس المعزول عمر البشير، واستمر ليتسع خلال الفترة الانتقالية التي تعتبر بمثابة مرحلة الطفرة لهذه القوات التي تأسست في العام 2013 بغرض مساعدة الجيش السوداني في القتال بإقليم دارفور في ذروة المعارك به، وقد سيطرت الحركات المسلحة أو كادت على مناطق شاسعة بالإقليم في ظل عدم خبرة الجيش الكافية للقتال في المساحات الصحراوية المفتوحة والمناطق الجبلية البعيدة، فخبرة الجيش السوداني خلال أكثر من 8 عقود تركزت في حرب الغابات والأحراش في جنوب السودان منذ العام 1955، خاصة مع تميز قوات الحركات المسلحة الدارفورية بسيارات الدفع الرباعي المعروفة بـ«التاتشرات»، وهي سيارات خفيفة الحركة وتتميز بالسرعة وتحمل الأسلحة والمدافع الخفيفة، وتسمح بالمناورة والكر والفر، وأرهقت كثيراً قوات الجيش آنذاك، ففكرت القيادة العسكرية في مواجهتهم بقوة من ذات النمط تكون موالية للحكومة، فتشكلت «قوات الدعم السريع» من أبناء بعض القبائل العربية ذات الخبرة القتالية في الإقليم التي تضررت من قبل من التمرد في دارفور، وتحمل ثأراً معه، وتم كذلك دمج عناصر من قوات حرس الحدود لهم، واصطلحت الحركات المسلحة على تسميتهم بـ«الجنجويد»، وهي كلمة تعني المقاتل الذي يركب الجواد، أو الجن الذي يركب جواداً، حسب بعض الروايات.
شكلت قوات الدعم السريع أو الجنجويد أسطورة قتالية في دارفور منذ عام 2013، فقد تمكنت هذه القوات بمساعدة الجيش من تحقيق انتصارات متوالية وسريعة على حركات التمرد وأصابتها بالارتباك لسرعتها واستخدامها أساليب حرب العصابات في مواجهة المتمردين؛ مما جعل الحركات تفقد عدداً من المدن والمواقع لصالح الجيش، ويوماً بعد يوم أصبحت السلطات في الخرطوم تزداد قناعة بصحة قرارها وتزيد الدعم العسكري والمالي لهذه القوات شبه العسكرية، خاصة بعد معركة «قوز دنقو» في العام 2015 التي خسرت فيها الحركات المتمردة خاصة حركة العدل والمساوة القسم الأكبر من قوتها عندما نزلت هذه القوات بمنطقة قوز دنقو الوعرة حيث لا يوجد ماء، واشتبكت معهم قوات الدعم السريع والجيش بكل شراسة، وأوقعت فيهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات والعتاد الحربي، حيث تم أسر أكثر من 300 أسير من قواتهم، كما استولت قوات الدعم السريع على أكثر من 160 سيارة دفع رباعي بكامل تجهيزاتها، حسب البيان العسكري آنذاك.
الصعود
أخذت هذه القوات تزداد قوة وتسليحاً، وبات من الضروري تقنين دورها مع الجيش، فأجاز البرلمان السوداني في عام 2017 قانون الدعم السريع، ونص القانون الذي أجيز على أن تلك القوات «تتبع للقوات المسلحة وتأتمر بأمر القائد الأعلى»، ومنذ تلك الفترة وجدت هذه القوات اهتماماً ودعماً مباشراً من الرئيس البشير، حيث تم تسليحها بأفضل وأقوى الأسلحة، وانتدب لها مئات من ضباط الجيش والمخابرات للعمل بها وتدريب عناصرها ونقلها من سلوك المليشيات للسلوك العسكري المنضبط، وكذلك ليكونوا عيناً للجيش والدولة على طموحات قائدها محمد حمدان دقلو، الشهير بـ«حميدتي»، وقد اعترض عدد من كبار ضباط الجيش وقتها على تقنين قوات الدعم السريع واعتبروها مهدداً إستراتيجياً للأمن، وأنه لا يستقيم أن يكون للدولة جيشان؛ الأمر الذي لم تعره القيادة اهتماماً، ودافعت القيادة وقتها أن هذه القوات تحت السيطرة، ولن يكون منها مخاطر على الدولة، بل أقيل عدد من الضباط الذين واصلوا الاعتراض والصدام مع قيادة الدعم السريع في ذلك الوقت.
ومع اندلاع الحرب في اليمن في العام 2015 وتشكيل التحالف العربي لدعم الشرعية، شارك السودان بقوات خليط من الجيش والدعم السريع التي أبدت بسالة في القتال، وأصبح اليمن ساحة لتطوير هذه القدرات؛ وبالتالي انتقلت هذه القوات لدور إقليمي بعد المحلي في السودان.
ثم كان اندلاع الثورة في نهاية العام 2018 في السودان وسقوط نظام البشير الفرصة الأعظم لتمدد وتطور الدعم السريع، فقد شارك حميدتي بقوة في الانحياز للثورة، وانحاز مع الجيش لإسقاط النظام، واستمر ذلك حتى اعتصام القيادة العامة 2019 حيث واصل الآلاف من الشباب اعتصامهم أمام القيادة العامة مطالبين بتشكيل حكومة مدنية ورافضين لأي شراكة مع العسكر في إدارة دفة الدولة، ولاحقاً قررت السلطة الانتقالية فض هذا الاعتصام بالقوة، وهذا ما حصل فعلاً في يونيو 2019 فيما يعرف باسم «مجزرة القيادة العامة» التي قتل وجرح وفقد فيها الآلاف من الشباب السوداني، وتم توجيه تهمة القتل لعناصر الدعم السريع، وأنها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وفق شهادات عيان أدلوا بشهاداتهم للجان التحقيق التي لم تعلن نتائج رسمية للتحقيق حتى اليوم.
بدأ التحرر العسكري والإداري للدعم السريع بذلك القرار الذي أصدره رئيس المجلس العسكري الانتقالي آنذاك الفريق عبدالفتاح البرهان بإلغاء المادة الخامسة من قانون الدعم السريع التي تجعله يخضع لقانون القوات المسلحة، وبذلك تحرر من المسألة رغم أنه جزء من الجيش!
خلال سنوات الفترة الانتقالية من العام 2019 وحتى اليوم، فإن قوات الدعم السريع تضاعفت قواتها بشكل كبير، فبلغت أكثر من مائة ألف جندي، بعد أن كانت لا تتجاوز ربع هذا العدد زمن البشير، وانطلق قائدها محمد حمدان (حميدتي)، وشقيقه عبدالرحيم، يؤسسان قاعدة اقتصادية ضخمة لدعم قواتهما، واستعانا بالمئات من عشيرتهما وقرباهم للمواقع القيادية، ودخلت قوات الدعم السريع لتشكل قادة اقتصادية من التنقيب عن الذهب وبيعه، بل خصص جبل عامر في دارفور بالكامل لهذه القوات، غير المربعات في شمال السودان، وتوسعت هذه القاعدة بالتجارة في اللحوم والمواد الغذائية وغيرها، واتسع الدور السياسي لقائد الدعم حيث تسنم منصب نائب رئيس المجلس السيادي مرتين خلال الفترة الانتقالية، بل ترأس اللجنة الاقتصادية في عام 2020، وكان نائبه رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك! بالرغم أن حميدتي لا علاقة له بالاقتصاد علماً ولا تجربة، وتركزت كل الفكرة على قوته الاقتصادية والعسكرية للقضاء على تجارة السوق السوداء في الدولار آنذاك، حيث قال كلمته الشهيرة: «الدولار دا يا رميناه يا رمانا»! ورغم ذلك لم يتحسن الوضع الاقتصادي، وواصل الدولار الصعود وازداد التضخم.
وعقب قرارات البرهان في 25 أكتوبر 2022 التي اعتُبرت انقلاباً بعد صراع مستمر مع القوى المدنية في تحالف قوى الحرية والتغيير التي انقسمت لجناحين انضم لأحدهما عدة قوى إقليمية في السودان وقبلية، مطالبة بحل حكومة حمدوك لفشلها السياسي والاقتصادي؛ مما خلق حالة انسداد سياسي أدت لقرارات 25 أكتوبر 2022 التي أعلنت حالة الطوارئ وحلت الحكومة ودخلت البلاد بعدها في حالة توهان سياسي وصراع متصل لم يهدئه حتى عودة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك لمنصبه بعد وساطات دولية ومحلية حيث استقال في يناير 2022 تحت رفض شعبي واتهام بموالاة العسكر آنذاك.
وباستمرار البرهان ومجلس سيادة منقوص من الحلفاء المدنيين وعضوية قيادات اتفاق جوبا من حركات دارفور والنيل الأزرق، تواصلت الأزمة السياسية، وإن كان حدث استقرار اقتصادي ملحوظ خلال العام الماضي وبداية هذا العام بانخفاض التضخم الذي بلغ 63.3% بنهاية فبراير الماضي لهذا العام، وكان قد بلغ في بداية العام 2022 أكثر من 263%، ويعزو عدد من الخبراء ذلك لضعف القوى الشرائية وحالة الركود وبعض الإيجابيات في تحرك القطاع الزراعي والخدمي.
بنهاية العام 2022، بلغت قوات الدعم السريع أقصى قوتها العسكرية والأمنية والسياسية، وبنى قائدها حميدتي علاقات واسعة مع روسيا والإمارات بواسطة بيع الذهب والتجارة، حيث تشير عدة مصادر لثروة تبلغ أكثر من 12 مليار دولار ببنوك الإمارات وحدها.
شرارة الأزمة واندلاع الحرب
وكجزء من محاولات حل الأزمة وتحريك العملية السياسية، سعى فولكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة بالسودان، مع الآلية الثلاثية التي تضم بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومجموعة إيغاد، وكذلك الرباعية الدولية والترويكا التي تضم أمريكا وبريطانيا والنرويج والإمارات والسعودية؛ سعى لعقد صيغة سياسية للتوافق لتكوين حكومة مدنية انتقالية وفق مباحثات اختتمت بورش ناقشت قضايا الانتقال المدني، ومنها ورشة باسم «الإصلاح الأمني والعسكري»، حيث تطالب القوى المدنية بضرورة إجراء إصلاحات هيكلية على أجهزة الجيش والأمن والمخابرات والشرطة، ودمج المليشيات من الحركات المسلحة والدعم السريع في الجيش.
وعلى الرغم من إعلان الجيش قبوله لمبدأ الإصلاح والدمج، بل ورغبته في ذلك لتوحيد الجيوش في السودان، فإن قيادات الجيش تحفظت على مقترح دمج الدعم السريع خلال عشر سنوات، واعتبرته مدة طويلة، وطالبت بالدمج خلال سنتي الفترة الانتقالية القادمة، وسط مخاوف من زيادة صعود الدعم خلال السنوات العشر المقترحة؛ وبالتالي ابتلاع الدعم للجيش وليس دمجه كما هو مخطط له، وزاد الأمر توتراً بظهور تحالف خفي بين قائد قوات الدعم السريع وتحالف الحرية والتغيير المجلس المركزي، خاصة بعد التصريحات المهادنة والمدافعة من ياسر عرمان، الناطق الرسمي باسم الحرية والتغيير، وصاحب التاريخ العدائي الطويل مع الجيش والإسلاميين منذ قيادته في الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983 مع الراحل جون قرنق، رئيس جنوب السودان ومؤسس الحركة الشعبية، وحتى خلافه مع مالك عقار، رئيس الحركة الشعبية – شمال، وتأسيسه كياناً منفصلاً باسم التيار الثوري الديمقراطي، لقد أثنى عرمان وعدد من قادة الحرية والتغيير المجلس المركزي كثيراً على حميدتي، واعتبروه شريكاً أساسياً في المرحلة القادمة، وصاحب نفوذ سياسي واقتصادي لا يمكن تجاوزه! على الرغم من اتهامهم له سابقاً بارتكاب جرائم حرب ومطالبتهم بتسليمه لمحكمة الجنايات الدولية، وكانت هذه إشارة واضحة لسعي المكون المدني لإقامة حلف عسكري يسند به ظهره في مواجهة الجيش الذي استطاع تكوين حليف مدني من قوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية وبعض القوى الأهلية، وبذلك يكون الانقسام قد اكتمل بحاضنة مدنية وحليف عسكري لكل طرف، ويتهم الجيش أطرافاً دولية وإقليميه بتحريض القوى المدنية والتدخل في الشأن السوداني الأمر الذي زاد الوضع تعقيداً.
شرارة الحرب.. انفجار المواجهات
بدأت نذر المواجهة بتعثر توقيع نهائي على الاتفاق الإطاري الذي كان يفترض أن يتوج ورش النقاش حول قضايا الفترة الانتقالية حيث حددت الفترة من الأول من أبريل وحتى الحادي عشر منه لتوقيع الاتفاق، ثم توقيع الدستور الانتقالي الذي أثار كذلك جدلاً طويلاً باعتماده نظاماً علمانياً للسودان، ثم يفترض إعلان حكومة انتقالية في نفس الفترة، ولكن كل ذلك تعثر برفض الجيش التوقيع قبل إعلان جداول الدمج النهائي لقوات الدعم السريع، وتقصير فترة السنوات العشر، وقد نقلت صحفية «السوداني» (محلية) عن مصادر لم تسمها أن اللجنة الفنية المشتركة بين الدعم السريع والجيش اقترحت هيئة قيادة تتكون من 4 قيادات بالجيش، واثنين من قيادات الدعم السريع.
وأضافت: فيما ظلت نقطة الخلاف الجوهرية في أن الجيش يرى أن تكون هيئة القيادة تحت رئاسة القائد العام للجيش ورئيس مجلس الأمن، الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، فيما تتشدد قوات الدعم السريع بأهمية إضافة طرف سابع في هيئة القيادة، تحت رئاسة رأس الدولة المدني القادم.
لقد شكل هذا الخلاف نوعاً من التسابق للسيادة خلال الفترة الانتقالية، فقوات الدعم السريع تخشى ذوبان سلطة قائدها وسلطتها، والجيش يريد إنهاء الازدواجية الأمنية والعسكرية وتوحيد أجهزة الدولة خلال الفترة الانتقالية؛ مما أدى لزيادة التوتر، وانطلق التحشيد السياسي والأمني لكلا الطرفين، ولكن كان اللافت تصريح لقوى الحرية والتغيير عقب ورشة «الإصلاح العسكري» وتعثر التوقيع النهائي للاتفاق الإطاري: «العملية السياسية خيار مفضل، لكن إذا تعثرت بالعراقيل التي يضعها الفلول (أنصار النظام السابق) فإننا سنطور خيارات بديلة»، وهنا يكمن السؤال: ما الخيارات البديلة التي قصدتها قوى الحرية والتغيير كبديل عن العملية السياسية؟
من جانبه، قال المتحدث باسم الجيش نبيل عبدالله: إن التوقيع النهائي للعملية السياسية بالبلاد لن يتم ما لم يتم وضع جداول لدمج قوات الدعم السريع في الجيش بصورة واضحة.
وأكد عبدالله، في تصريحات نقلتها صحف محلية بينها صحيفة «الوفاق»، أن ترتيبات الدمج لا بد أن تكون جزءاً من الاتفاق النهائي، وأضاف: لا يمكن أن نعمل اتفاقاً ويكون هناك جيشان في البلد.
وقبل اندلاع الاشتباكات بيومين، حذر الجيش من تحركات واسعة لقوات الدعم السريع داخل الخرطوم والولايات خاصة نحو مدينة مروي ومطارها وقاعدتها العسكرية، وإن هذه الحركة غير مصرح بها من الجيش، وتتم دون علمه وإذنه، وتم عقد جلسة طارئة لقيادة الجيش لمناقشة الوضع الذي عبرت عنه أنه اتخذ منحنى خطيراً للغاية.
وبالفعل، فقد كان توجه قوات ضخمة من الدعم السريع نحو مدينة مروي شرارة الأحداث، حيث طالبها الجيش مراراً الانسحاب والعودة لقواعدها، وأمهلها 24 ساعة لتنفيذ ذلك، ولكن في يوم السبت 15 أبريل انفجر الوضع تماماً بالقتال في قلب الخرطوم، حيث اتجهت قوات من الدعم السريع للسيطرة على القصر الجمهوري والقيادة العامة ومواقع حيوية بالعاصمة والولايات في صورة انقلاب عسكري كامل على الجيش الذي استنفر قواته للمواجهة، واشتعل القتال فعلياً بين الطرفين مخلفاً مئات القتلى والآلاف من الجرحى وتعرضت العديد من المؤسسات للتدمير والحرائق.
لقد تركزت المعارك في الخرطوم العاصمة خاصة وسطها وبعض الولايات في دارفور، وقد بدا أن قوات الدعم السريع بنت إستراتيجيتها على تحييد الطيران الحربي للجيش باحتلال المطارات الرئيسة في الخرطوم ونيالا والأبيض والفاشر، حيث يتفوق الجيش السوداني بسلاح الطيران القوي، ولكن سيطر الجيش السوداني على مطار مروي بشكل نهائي بعد كر وفر مع الدعم السريع في الأسبوع الأول من المواجهات.
عسكرياً؛ أخذت المواجهات تكتيكات مختلفة، فقوات الدعم السريع اعتمدت أسلوبها المفضل في الضرب المركز ثم الانسحاب ومحاولة السيطرة على المواقع الإستراتيجية بواسطة قوات ضخمة تجاوزت 50 ألف مقاتل من دارفور وتشاد وغرب أفريقيا عبر حملات تجنيد واسعة مسنودة بمال ضخم، والمتجول في شوارع الخرطوم يشاهد فعلياً انتشاراً واسعاً لقوات الدعم في الطرق وبين المساكن للمواطنين، حيث يتهمها الجيش باتخاذ المواطنين دروعاً بشرية، فيما فضل الجيش أسلوب الإنهاك واستدراج أكبر عدد من القوات المتمردة للخرطوم ثم قطع الإمدادات عليها، وقصفها بالطيران وتحييدها أملاً في إضعافها معنوياً، ثم الهجوم البري للقضاء عليها، ولكن من الواضح أن قوات الدعم ما زالت تقاوم في الخرطوم، وأن الجيش لم يستطع خلال عشرة أيام حتى الآن وأكثر من الحسم لحساسية القتال في الخرطوم وخشية الجيش من زيادة الضحايا وسط المدنيين؛ مما يهدد بتدخل دولي ربما يصل لعقوبات ومناطق حظر جوي ضد الجيش الذي يعي هذه المخاطر.
الوضع الإنساني في الخرطوم حالياً مأساوي؛ حيث انهارت الخدمات في وسط الخرطوم وأطرافها من كهرباء ومياه واتصالات، وقتل عدد من المدنيين ونزح الآلاف من السكان للولايات القريبة الآمنة وبعضهم لخارج السودان خاصة مصر، وربما تتضاعف هذه الأعداد خلال الأيام القادمة ما لم تتوقف الحرب.
السيناريوهات المتوقعة
في ظل إصرار الطرفين على الحسم العسكري ورفض التفاوض وخرق الهدن المستمر، فإنه يتوقع عدة سيناريوهات لهذه الحرب، وهي:
الأول: انتصار الجيش وهو راجح في ظل الخبرة العسكرية الطويلة والتسليح المتقدم للجيش السوداني المصنف ضمن أقوى 10 جيوش في أفريقيا، ولكن هذا الانتصار قد يحتاج وقتاً طويلاً في ظل تعقد الوضع العسكري وتزايد الخسائر، وهذا غالباً سيؤدي لانهيار توقيع الاتفاق الإطاري، وربما ظهرت خيارات سياسية بديلة لكنها ستقوي موقف الجيش عسكرياً وسياسياً، وسيكون الطرف الفاعل حتى في حال تكوين حكومة انتقالية، بل هناك توقع بتحول الحكم في السودان لحكم عسكري بصورة مدنية يتحكم فيها الجيش بشكل أو بآخر.
الثاني: انتصار قوات الدعم السريع؛ وهو احتمال ضعيف، ولكنه ربما يقوى حال استمرار الحرب وتدخل أي دعم إقليمي ودولي لصالحهم أسوة بحرب اليمن وليبيا؛ مما يؤدي لتعقيد الوضع، وربما انزلقت البلاد فعلياً لحرب أهلية شاملة حيث لا تتمتع قوات الدعم السريع بقبول حتى في إقليم دارفور ولا بقية الولايات؛ وبالتالي من الصعب خضوعها لها بل غالباً ستقاومها وترفض سلطتها.
الثالث: لا منتصر ولا مهزوم باستمرار الحرب واتساعها واختلاف ميزان القوة وتقاسم مناطق النفوذ، مثل ليبيا واليمن، وتحول السودان لدولة فاشلة مما يؤدي لزيادة النزوح للسكان واللجوء للدول الغربية والعربية، وهو مهدد أساسي لدول الجوار خاصة مصر التي تعاني من وضع اقتصادي متأزم وصراع لم يحسم مع إثيوبيا حول «سد النهضة»، وليبيا كذلك وتشاد، وعدم استقرار الوضع فيها سيؤدي حتماً لاندلاع المعارك بين الفرقاء الحذرين أصلاً، وإثيوبيا التي تعاني من حروب وصراعات ربما تتسع لتنطلق المعارضات العسكرية لهذه الأنظمة من السودان حال هذا السيناريو الثالث نتيجة الهشاشة الأمنية وغياب الدولة.
الحلول الممكنة
إن أفضل خيار متاح حالياً لحل الأزمة في ظل العجز الداخلي للحل السوداني هو تحرك عربي أفريقي داخلي لتقديم صيغة مقبولة لحل الصراع وفق رؤية توحيد الدولة والجيش السوداني في فترة مناسبة، مع ضمان التحول الديمقراطي بعد فترة قصيرة، تعقبها انتخابات عامة تحسم الصراع حول السلطة.
إن الدعوة لوقف الحرب للظروف الإنسانية فقط معقول، لكنه غير كاف بدون رؤية سياسية للحل، وهذا يحتاج لتدخل خبراء عسكريين وسياسيين لوضع صيغة مقبولة للتفاوض تحل العقدة الرئيسة، وأنه لا جدوى لوقف إطلاق النار دون هذه الرؤية التي ربما سيكون لها سماع أفضل حال تحقيق أحد الأطراف لتقدم كبير يسمح بالمناورة وتنازل أحد الطرفين.
____________________________
(*) صحفي وباحث في العلوم السياسية.