يُنظر بإعجاب للمنجز السياسي والاقتصادي والاجتماعي لحزب العدالة والتنمية التركي خلال سنوات حكمه العشرين، وهو إنجاز وضع تركيا في صدارة إقليمية، ومكانة دولية متقدمة، لكنَّ هناك جانباً غير مرئي يقف وراء هذا الإنجاز، فقد استطاع الحزب إحداث تغيرات فكرية عميقة في تصوراته، تجاه المفاهيم والقضايا الكبرى وكيفية التعاطي معها، خاصة الدين، والدولة، والعلمانية، والعلاقة مع الغرب، وإيجاد مسارات إبداعية للتعامل مع المستجدات في حال استعصاء الواقع على تحقيق أهداف الحزب وغاياته.
في سنوات حكمه العشرين، استطاع حزب العدالة والتنمية التركي بناء قاعدة اجتماعية واقتصادية قوية ساندته في مناوراته السياسية، وأمدته بقدر من القوة والفعالية في مواجهة العلمانية الشرسة، فأدرك الحزب أن التدرجية وسيلة للوصول، وأن تجزئة الهدف يمكن أن تحققه، وأن الخطأ وسيلة للتعلم، لكن لا مجال لتكراره مرة أخرى.
عندما أجبر الجيش التركي، حامي العلمانية، في 28 فبراير 1997م، رئيس الوزراء «نجم الدين أربكان»، زعيم حزب «الرفاة»، على الخروج من السلطة، وجد شباب الحزب أن هناك حاجة ماسة لتعديل تصوراتهم الذهنية، فالتدخلات المتتالية للجيش، وإخفاقه لتجربة الإسلاميين في الحكم، تفرض البحث عن مسارات بديلة لتفادي الصدام أو الإخفاق، وإذا كان الحكيم «أربكان» طلب من أتباعه ألا يخوضوا مواجهة مع الانقلابيين حقناً للدماء، وأن يكتفوا بـ«الصراخ في الغابة» لتفريغ غضبهم، فإن شباب الحزب -وقتها- رأوا أن الحكمة توجب شيئاً آخر، وهو تعديل المسار والتصور.
من أهم القضايا والأفكار التي عدل فيها حزب العدالة والتنمية مساره وتصوره:
تعديل المسار والتصور
– حزب محافظ لا ديني: فمع الإفصاح عن الحزب عام 2001م، الذي كان التجلي الحزبي الخامس للإسلاميين(1)، طرح العدالة والتنمية نفسه كحزب محافظ وليس حزباً دينياً، كان تغيراً مهماً لفهم العدالة والتنمية للحزبية، فلم تعد الحزبية -حسب تصورات الإسلاميين- تجسيداً للمعنى الديني، ينحصر فيها فئات ومجموعات محددة من الشعب، ولكن بات تجسيداً لقيمه المحافظة الفضفاضة، التي تتسع لمكونات متنوعة داخل المجتمع التركي، والقادرة على مخاطبة الكثير من القوى داخل المجتمع، وهو ما وسع قاعدة الحزب، وأتاح له بعد عام واحد فقط من تأسيسه الصعود للسلطة؛ بل والبقاء فيها 20 عاماً.
فإنتاج هذا التصور لمفهوم الحزبية كان مدخلاً للنجاح، وطريقاً لتقديم مفاهيم أخرى، أهمها: الديمقراطية المحافظة، وهو مصطلح أنتجه الحزب وتميز به، وأتاح له التعاطي مع العلمانية التركية الشرسة بروح مختلفة غير صدامية، قائمة على الاحتواء والإضعاف التدريجي، والإحلال البطيء الواعي لمناطق نفوذها ومكامن قوتها الراسخة، كذلك كفل مفهوم المحافظة أن يتنفس إسلاميو تركيا بأكثر من رئة، فالمحافظة لا تبتعد كثيراً عن الرؤى الدينية، ولا عن الميراث التاريخي التركي العثماني، ولا عن التجارب الحزبية الناجحة في العالم الغربي المتقدم، كان مصطلحاً قابلاً للفهم والتفسير، ومتعدد الأوجه قابلاً للحياة والتطور، ومتميزاً بمرونة عالية حجبت عنه الجمود الأيديولوجي، والانتهازية السياسية القائمة على المكسب السريع الخاطف، الذي قد يتناقض في كثير من الأحيان مع المشروع الفكري، والأهم في مفهوم المحافظة أنها بيئة لإنتاج التوافق وليس الانقسام، بيئة توسع المشتركات السياسية، لذلك هاجمتها العلمانية، ووصفتها بأنه «رنجة حمراء»(2)، بيد أن المصطلح كان جذاباً، وجاذباً لأطياف واسعة في المجتمع التركي، ولم يكن مغالطة منطقية لإخفاء أيديولوجيا الحزب.
– إدراك الخطوط الحمراء: أبدع حزب العدالة والتنمية في فهم الواقع التركي بعمق خاصة مفهوم الدولة والعلمانية، فلم يلجأ للأيديولوجيا في التعاطي السياسي معهما، فالجيش منذ السبعينيات وقف وراء إزاحة الإسلاميين عن للسلطة في التجارب «الأربكانية»، وحفز ذلك العدالة والتنمية على ضرورة إدراك تلك الخطوط الحمراء، والالتفاف عليها، تمهيداً لاستبدالها، وأن تكون مواجهتها من خلال بنية الدولة ومؤسساتها، وليس بالخروج على الدولة ومواجهتها، واعتماد إستراتيجية الفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية.
كان التعامل مع الجيش نموذجاً لكيفية تحييد أكبر عقبة في طريق الحزب، حيث اتجه الحزب لتقليص الدور السياسي للجيش، من خلال عرقلة روحه الانقلابية عبر تبني الانضمام للاتحاد الأوروبي، باعتبارها هدفاً إستراتيجياً لتركيا، كذلك تقليص عدد العسكريين في مجلس الأمن القومي لصالح المدنيين، وتقليص حضور ممثلي العسكريين في كثير من مؤسسات الدولة مثل التعليم والإعلام، والسعي لإزالة الطبقة العسكرية ذات الأيديولوجيا العلمانية الشرسة من مواقعها في الجيش، بالكشف عن فسادهم وفضائحهم، وكانت الفضيحة الأبرز «أرجنينكون» عام 2008م التي تورط فيها جنرالات متقاعدون لتدبير انقلاب عسكري.
كذلك محاولة تفكيك تحالف مؤسسات الدولة الكبرى، المعادية للحزب، فاستطاع العدالة والتنمية أن ينجو من محاولة الانقلاب القضائي عليه أكثر من مرة، وأصبحت أصوات مؤثرة داخل المحكمة الدستورية ترفض حظر الحزب، كذلك ساهم الحزب في دفع القضاء لإلجام طموح الجنرالات السياسي والانقلابي، ومن ثم أخذت الخطوط الحمراء، التي وضعتها العلمانية الكمالية، تبتعد رويداً رويداً عن مسارات الحزب وطموحاته، وبات الفضاء السياسي أكثر قبولاً للتغيير وتأييد الحزب ومنحه الفرصة تلو الفرصة لإثبات جدارته.
والأهم أن الحزب كان يخوض المعركة الناجحة مع تلك المؤسسات العاتية، في التوقيت الذي يكون فيه قادراً على النجاح والانتصار، فلم تكن المعركة تُفرض عليه إلا قليلاً، فعندما ألمح الجيش بوجود نيه للانقلاب عام 2007م، رد الحزب بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، فكانت فوزاً ساحقاً للحزب حصد فيها 47% من الأصوات مقارنة بـ34% من الأصوات في انتخابات عام 2002م، كما تخلص من طبقة من الجنرالات الكبار بالتقاعد عام 2011م، وأصبح مصير كثير منهم السجن، كما خاض الحزب بمساندة الأتراك ومؤسسات الدولة معركة مواجهة المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016م التي أعقبتها تغيرات كبيرة نحو تطهير الجيش.
– شرعية الإنجاز لا الأيديولوجيا: كان الإنجاز أهم مداخل الحزب لبناء شرعيته، فضاعف الإنتاج، وسعى لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وخلق بيئة ازدهار للصناعة، وفتح أسواقاً خارجية، وأسس آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة، وحفز المدن المسماة بـ«نمور الأناضول»؛ مثل غازي عنتاب وقونية، لتحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي والصناعي، فكانت تلك المدن محاضن لشعبية الحزب، فبين عامي 2002 و2011م، نما الاقتصاد التركي بمعدل 7.5% سنوياً؛ فانخفض التضخم، وارتفع متوسط دخل الفرد، وأصبحت تركيا جاذبة للاستثمار، وكما يقولون أفضل جاذب للاستثمار هو النجاح.
ومع الإنجاز أخذت قطاعات واسعة من الأتراك، خاصة في رجال الأعمال، تتشكك في جدوى التمسك بالعلمانية الكمالية الناضحة بالفساد والفشل، كطريق للمستقبل والنهوض بتركيا، ومع الإنجاز كانت الرؤية الدينية تسير مع الإنجاز، التي طرحها حزب العدالة بمفهوم يستطيع الأتراك فهمه وتبنيه والدفاع عنه، فكانت إنتاج العثمانية الجديدة، وهي تذكر الأتراك بأمجادهم وسيادتهم للعالم عدة قرون، كما أن كثيراً من الأتراك فهموا المصطلح كرؤية لاستعادة زعامة تركيا في مناطق نفوذها خاصة في البلقان.
– الغرب من عدو إلى حليف: تحول الغرب في أدبيات الحزب من عدو تُصب عليه اللعنات، إلى حليف ومنافس، فقد كانت العلاقة مع الغرب رافعة لقمع روح الجيش التركي الانقلابية، كما أوجد التغير في التصور عن الغرب طمأنينة للغرب سمحت بعدم إعاقة مسارات الحزب داخلياً وخارجياً، بل أصبح الغرب ينظر للحزب كنموذج يمكن تسويقه للأحزاب الإسلامية، وكما يؤكد المفكر التركي أحمد كورو، فـ«إن الحفاظ على بقاء العلاقات دافئة مع الدول الغربية كان له دور رئيس في توالي نجاحات حزب العدالة والتنمية في تعزيز النمو الاقتصادي والتنمية».
فالحزب تعامل بطريقة تحمل الود مع الغرب، لكنها حاسمة في كثير من الأحيان، وحتى العلاقة مع «إسرائيل» كانت مركبة، فرغم رفض الحزب للصهيونية والاحتلال، ووجود خطاب معارض لها ومؤيد للفلسطينيين وحقهم، وتقديم الدعم للشعب الفلسطيني، فإن الحزب احتفظ ببعض العلاقات الاقتصادية والسياسة مع «إسرائيل» سهلت في تخفيف المعاناة عن الفلسطينيين أثناء حرب غزة.
______________________________
(1) أسس أربكان 4 أحزاب، هي: «النظام الوطني» عام 1970م، «الإنقاذ الوطني» عام 1972م، ثم حزب «الرفاه» عام 1983م، و«الفضيلة» عام 1997م، لكنه تم حظرها إما بانقلاب عسكري أو حكم قضائي.
(2) مصطلح استخدمه الكاتب الإنجليزي «ويليام كوبيت» يعني مغالطة منطقية تتمثل بعرض بينات أو موضوعات أو أسباب جاذبة خارجة عن الموضوع لتشتيت انتباه الطرف الآخر عن الموضوع الأصلي.