الإلحاد في اللغة يفيد الميل عن الاستقامة والظلم والباطل والفساد، والإلحاد في الاصطلاح يقصد به عدم الإيمان بالله والأنبياء، ينقسم إلى: إلحاد سلبي لا يؤمن صاحبه بوجود الله ولا يؤمن بالأنبياء، ولا يسيء إلى عقيدة غيره بالقول أو العمل، ولا يدعو غيره إلى معتقده، والثاني: الإلحاد الإيجابي الذي لا يؤمن بالله، ويتجه إلى بث فكره بكل الوسائل؛ فيشكك في وجود الله، ويطعن في الأنبياء والثوابت الدينية.
ليس هناك إحصاء دقيق عن الملحدين في المجتمع العربي نظرًا لعدم تصريح كثير منهم بالإلحاد، وهناك ملحدون يطعنون في ثوابت العقيدة دون أن يعلنوا إلحادهم صراحة في مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وإذا ما وصف فكرهم بأنه كفر وإلحاد، فإذا بهم ينتفضون باتهام مخالفيهم بأنهم يكفّرون كل من يختلف معهم في الرأي، ولديهم خصومة مع كل صاحب فكرٍ حرّ، وقد بدا ذلك الفكر الإلحادي في وسائل الإعلام المختلفة على مستوى واسع الانتشار؛ ونظرًا لخطورته، فإننا نقدم الأفكار التي يروجون لها في السطور التالية:
– إخضاع الإسلام للرؤية العقلية:
شهد تاريخ الفكر الأوروبي صراعًا فكريًا حول أيّ من مصادر المعرفة التي عرفتها البشرية في تاريخها حتى الوقت الحاضر له السيادة: الدين أو العقل أو الحس والواقع!
وقد انتهى ذلك الصراع بأن العقل له الحق في الإشراف على كل اتجاهات الحياة وليس الله، وأطلق على هذا العصر بـ«عصر التنوير»، أو «عصر سيادة العقل»، أو «عصر الإيمان الفلسفي» بإله ليس له وحي.
وقد ظهر أصداء هذا الفكر الإلحادي في وسائل الإعلام العربية اليوم، فتجد من يخضع الإسلام وأحكامه القاطعة لرؤية العقل؛ فلا عجب أن تجد من لم يؤتَ نصيبًا من العلم، وأمد الله له في الضلالة مداً؛ فشرع يقول في القرآن بهواه وفهمه السقيم يُحِلُّ ما حرم الله، ويناقش الثوابت الدينية بعقله، فينكر المعراج الثابت في قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ (النجم: 13-14)؛ وينكر بسخرية أن حجاب المرأة فريضة والذي ثبت بقوله سبحانه: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ (النور: 31)، ويعترض بعقله على إرث المرأة نصف الرجل الوارد في قوله سبحانه: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ﴾ (النساء: 11)، وإنكار عذاب القبر ونعيمه، وغير ذلك كثير.
وإذا وجدت من ينكر ما ورد في القرآن لعدم قبول العقل له؛ فلا عجب أن تجده يتطاول على الصحابة والمحدثين؛ ويطعن في صحيح البخاري الذي أجمع المحدثون على صحة أحاديثه، ويجنح به عقله إلى القول في الدين بآراء ما أنزل الله بها من سلطان، فالعقل له السلطة المطلقة في قبول أو رفض أي نص مقدس، ونظرًا لأن العقول متفاوتة في الإدراك والتفكير، ولن يحيط بكل شيء، فكل إنسان يفسر الإسلام وأحكامه وفقًا لهواه ويسير وفق ما يراه مدعيًا أن ذلك هو السلوك الديني المعتدل؛ وأن ما سواه ضلال!
– الإسلام هو القرآن وحده دون السُّنة:
ادَّعى قوم في القرن الثاني الهجري أن الإسلام هو القرآن وحده، وأنكروا السُّنة مصدرًا للتشريع الإسلامي، وقد ردّ عليهم الإمام الشافعي بما يثبت فساد قولهم، ورد عليهم العلماء في مختلف العصور، وقد ظهر في عصرنا الحديث من يقول بمثل قولهم، وأطلقوا على أنفسهم «القرآنيين»، وادعوا أن طاعة رسول الله واجبة فيما أتى به القرآن فقط، وأن الصلاة توارثها العرب من إبراهيم عليه السلام، وأنشؤوا موقعًا للتعبير عن آرائهم أسموه «أهل القرآن».
وهم في ذلك يتجاهلون الآيات القرآنية التي تلزم المؤمنين بالطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وتتوعد من يعصيه بالعذاب الأليم يوم القيامة، ومنها: قوله سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (النساء: 13-14).
وقد أورد الترمذي في سننه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ألفينّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه؛ فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (صححه الألباني، حديث رقم 2663).
وقد حكم العلماء على هذه الطائفة بالكفر، فيقول ابن حزم في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» (ج2، ص80): «ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن؛ لكان كافرًا بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة واحدة بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر، لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حدّ للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافرٌ مشرك حلال الدم والمال، وقد ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن اجتمعت الأمة على كفرهم».
– توحيد الأديان (الدين الإبراهيمي):
وقد ظهرت دعوات لتوحيد الأديان السماوية تحت دين واحد يحمل الأسس المشتركة بينها، وأطلقوا عليه «الدين الإبراهيمي» نسبة لنبي الله إبراهيم عليه السلام، وقد تصدى لبيان زيف تلك الدعوى د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، خلال كلمته يوم 7 نوفمبر 2021 بقوله: إن الدعوة للديانة الإبراهيمية دعوة إلى مصادرة أغلى ما يمتلكُه الإنسان وهو: حرية الاعتقاد، وحرية الإيمان، وحرية الاختيار، وكلُّ ذلك ممَّا ضمنته الأديان، وأكَّدته في نصوص صريحة واضحة، ثم أوضح أن اجتماع الخلق على دِينٍ واحدٍ أو رسالةٍ سماوية واحدة أمرٌ مستحيل في العادة التي فطر الله الناس عليها، لو شاء الله أن يخلقهم على مِلَّةٍ واحدة أو لونٍ واحد أو لغةٍ واحدة أو إدراك واحد لفعَل، لكنه تعالى لم يشأ ذلك، وشاء اختلافَهم وتوزُّعَهم على أديان ولغات وألوان وأجناس شتى لا تُعد ولا تُحصى، ثم بيَّن أن هذا الاختلاف باقٍ ومستمر في الناس إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (هود: 118).
– مواجهة القرآن الكريم للإلحاد:
اتخذ القرآن الكريم موقفًا متباينًا في مواجهة الإلحاد، الأول: الإقناع العقلي للإلحاد السلبي: إن من لم يؤمن بالله، ولم يتعد بالإساءة بالقول أو العمل إلى عقيدة المسلمين؛ فتكفل الإسلام بحمايته واحترام اختياره دون إكراه؛ فيقول سبحانه: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: من257)، وقد اتبع القرآن معه منهجًا يقوم على إثارة فكره نحو التفكير في خلق الكون وبديع صنع الله من الآيات الدالة على وجوده الله، فإن أصر على كفره، فحسابه عند ربه يوم القيامة العذاب الأليم، ومن تلك الآيات القرآنية قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 190-191)، وقوله سبحانه: ﴿يأيها النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ (فاطر: 3)، وقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ (الأنعــام: 46).
ثانيًا: التصدي للمجاهرين بالإلحاد الإيجابي: إن من لم يؤمن بالله، واتجه بالطعن والتشكيك في الإسلام عقيدة وشريعة وثوابته، محاولًا زعزعة العقيدة في نفوس المؤمنين، فقد اتخذ الإسلام معه موقفًا أكثر حزمًا؛ فأوجب محاربته، فيقول الله سبحانه عن المشركين: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ (التوبة: 12).
ويتفق المفسرون على أن الآية صريحة في وجوب محاربة من يطعن في الإسلام، ومن ذلك قول الطبري في قوله سبحانه: ﴿وطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ (التوبة: 12): «وقدحوا في دينكم فثلبوا وعابوا، فقاتلوهم رؤساء الكفر بالله، إن رؤساء الكفر لا عهد لهم لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم».
ويقول القرطبي: «استدل بعض العلماء على وجوب قتل من يطعن في الدين؛ إذ هو كافر، والطعن هو أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين؛ لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه.. وتقدير الآية عندنا: فإن نكثوا حلّ قتالهم، وإن لم ينكثوا، بل طعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حلّ قتالهم».
ويقول السعدى: «وطعنوا في دينكم؛ أي عابوه، وسخروا منه، ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجه إلى الدين أو إلى القرآن؛ ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْر﴾؛ أي: القادة فيه، الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن الناصرين لدين الشيطان، وخصهم بالذكر لعظم جنايتهم؛ لأن غيرهم تبع لهم، ويدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد عليه؛ فإنه من أئمة الكفر.
وخلاصة القول: إن الإسلام احترم حرية الاعتقاد طالما أنه هو الآخر احترم عقيدة المسلمين، ولم ينشر فكره الإلحادي بين المسلمين، ولم يطعن في دينهم، وإذا أخل بذلك؛ فيجب التصدي له بحزم.