من الدراسات المهمة في المدخل المعرفي لتجديد النظر في الدراسات القرآنية، وتوجيه الباحثين إلى منحى جديد في التعامل مع القرآن، دراسة «فلسفة مرجعية القرآن المعرفية في إنتاج المعرفة الدينية»(1) للباحث نجف على ميرزائي.
تركزت هذه الدراسة حول ثلاثة محاور رئيسة؛ الأول: القرآن الكريم هو القانون الأساسي لإنتاج المعرفة الدينية، أو أنه يجب أن يشغل هذه المكانة وتتراجع باقي المصادر التي تقدمت عليه، والثاني: المرجعية القرآنية في صياغة الإستراتيجيات المعرفية والتنظير الحضاري، والثالث: العودة إلى القرآن بوصفه مرجعية لإنقاذ الأمة.
تنطلق هذه الدراسة من الشعور بأخطار تراجع القيمة المعرفية للقرآن في مجال الإنتاج المعرفي للأمة، وترى أن كل الانهيارات وأشكال الاضطراب الفكري مردها إلى هذا التراجع القيمي للقرآن في مجال المصدرية المعرفية للتفكير الديني بصورة أساسية؛ إذ حلت الأقوال البشرية في التراث وفي المذاهب والأفكار والفقه محل المرجعية القرآنية؛ «إن جذور هذه الانهيارات والانحرافات المعرفية والموضوعية، أو على الأقل بعض هذه الجذور مردها إلى «هجر» القرآن الكريم، في ساحة إنتاج العلم الديني، وحتى في غربلة هذا الكم الهائل من العلوم الدينية المتراكمة، لتصحيحها».
إن أبرز مظاهر تراجع القيمة/ المرجعية للقرآن في إنتاج المعرفة الدينية وما يتعلق بها في حياة المسلمين، هو ذلك التناحر المذهبي والفكري الواسع بين أتباع المدارس الدينية أنفسهم من ناحية، والقرآن وبين عامة المسلمين من ناحية أخرى.
إن عدم الاعتراف رسميًا بالدور «المرجعي» للقرآن، ووظيفته المتعددة الأبعاد في هندسة بناء المعرفة، أدى إلى انفصال مثير للحيرة والتعجب، بين البنى التحتية للمعرفة الدينية، هذه البنى التي كانت في الحقيقة أطراف ساحة واحدة، وتجليات لمعرفة كبرى، تبدلت إلى جزر متباعدة، وأحيانًا إلى جبهات متناحرة، إن أساس هذه الفواجع والإشكالات جميعها كامن في الابتعاد عن القرآن الكريم في المسار المعرفي وفي مسار الإنتاج العلمي وليس في السلوك الفردي الذي ليس موضع اهتمام هذه الفكرة.
تتمثل الدعوة الرئيسة للدراسة في ضرورة أن يكون المنهل الواحد والمنشأ الواحد لجميع العلوم المنسوبة إلى الدين يجب أن يكون القرآن الكريم، والسُّنة المدعومة بالعقل، ومن ناحية أخرى تكون الأهداف والمقاصد الدينية البيئية والخفية، في جميع أجزاء هذه المنظومة المعرفية، المتعددة الأبعاد والجوانب، موحدة ومتناغمة ومنسجمة، لتحديد متكافئ لتوجهات الحياة الإنسانية والاجتماعية.
وتدعو إلى العودة إلى القرآن الكريم على أنه الحلقة الرئيسة في سلسلة المصادر المعرفية، وأنه معيار وميزان صواب الآراء والأفكار وعدم صوابها، والمصدر الرئيس للقواعد الثابتة والشاملة لجميع العلوم الدينية، وجميع تحركات الإنسان وتوجهاته، نحو السعادة والهداية، والحبل الذي لولاه لانفرطت حبات العقد، وتبعثرت الفروع العلمية والمعارف حائرة دون هدف كل باتجاه قبلته الخاصة.
توجه الدراسة إلى الباحثين طلب الجهد الفكري والبحثي في جعل القرآن الكريم المرجعية المعرفية والميزان القائم الذي توزن به الأفكار والآراء، وليس العكس أن يوزن القرآن بالأفكار والآراء، إن الفرضية العظيمة والخطيرة، التي يجب أن تُبذل جهود بحثية عظيمة لإثباتها وتحقيقها، هي أن القرآن الكريم هو الميزان وهو المعيار في تقويم جميع المعارف، وفوق «حجيته» هو مقياس تقويم الحجج والمعارف المكتوبة أو الذهنية أو الشخصية، إن ما يؤدي إلى التوازن ورفع الخلل في منهجية إنتاج المعارف الدينية، واستنباط العلوم الشرعية، هو إعادة القرآن إلى رتبة الهيمنة والمرجعية قياسًا بمصادر إنتاج المعرفة الدينية الأخرى.
إطار هذه الفكرة يقوم على ضرورة تبني المرجعية القرآنية المعرفية في جميع العلوم الإسلامية، بحيث تمثل المصدر الرئيس لتلك العلوم، والمعيار الذي يوزن به مخرجات هذه المعارف، باعتبار أن تلك المنهجية المعرفية هي القانون الأساس للعلوم الدينية، والمقصود بالعلوم الدينية هي كل إنتاج يستند إلى القول باسم الدين أو الإسلام، ويقدم للمسلمين بهدف الالتزام به في شؤون حياتهم، سواء كان ذلك في الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة.
إن المعارف القرآنية، جميع المعارف في القرآن ككل (دون تمييز أو تبعيض بين آيات الحكام وغير الأحكام)، كمنظومة علمية، وتربوية واحدة، عظيمة وشاملة، لا تتجزأ ولا تتفكك، هي القانون الأساسي للهداية وللبناء وللسعادة، وهي الضامن الأول والأساسي لمقاصد الأحكام الإلهية ولأهدافها ولمناهج تطبيقها، وهي العنصر الرابط لجميع السنن والأقوال الشرعية الأخرى، والجامع لها، وحلقة الاتصال فيما بينها، إن جميع الحقائق والمعارف تعود إلى القرآن.
القرآن وتأصيل المعارف الدينية وتصحيحها
إن عمل المرجعية المعرفية القرآنية في إنتاج المعرفة الدينية وبلورتها يتحدد في مجالين؛ أحدهما: تأصيل قضايا إنتاج العلوم الدينية وتصحيها، والآخر: يقع في الحيز الأساس لإنتاج الفكر الديني.
بناء على ذلك، فإن حركة إنتاج العلوم الدينية ما لم تكن مؤسسة على أفكار وقواعد كلية قرآنية المضمون والأسلوب، تظل ركيكة وضعيفة، وعاجزة عن تلبية حاجات العصور المتغيرة، كما أن تحقيقات الباحثين من علماء الدين الفقهية والعلمائية (الهيئة البحثية العلمية)، لن توصل إلى طريق «العلم الصحيح» والمعرفة الواقعية، بسبب بعدها عن منابع القرآن الكريم الأصيلة، غير البشرية وغير الوضعية، وعدم تسويغ ثمار هذه الاجتهادات في ظل الضوابط الكلية والنظريات والمبادئ الشاملة لآياته.
مرجعية القرآن العلمية واتجاهاته المعرفية
إن إحدى المقولات الجديرة بالاهتمام في هذه الدراسة، التي يجب أن تؤخذ في الحسبان حقيقة، أنه من دون أن تعود مرجعية المعارف الدينية ومنبعها إلى أصول القرآن الكريم الشاملة، ومن دون الاعتراف رسميًا بدور القرآن التأسيسي في تقعيد مختلف اتجاهات المعارف الإنسانية والاجتماعية الموصوفة بالإسلامية وحتى غير المنعوتة بها، فإن كل ما توصل إليه إسلاميو الحركات الإسلامية ليس أكثر من تطبيق جزئي للأحوال الشخصية.
إن الطريق الوحيد للخروج من الأزمة الفكرية للعلوم الدينية والاجتماعية، هو الاجتهاد الإسلامي المبني على الفهم الشمولي والجامع وعلى شكل منظومة معرفية موحدة، إسلامية الأسس والبنى التحتية، مرجعيتها الوحي والسُّنة والتعقل والموضوعية، مع الأخذ في الحسبان المبادئ المعرفية لعلوم الإناسة والاجتماع والكون، وبإدراك صحيح للعلاقات وللتداخل بين هذه الساحات والحقول في القرآن الكريم، فخصوصيات عصرنا الموضوعية والذهنية، لا تتلاءم إلا مع خصوصيات المنهج المعرفي للقرآن الكريم، ورؤيته الموحدة والتوحيدية، إن الاعتراف بدور القرآن المرجعي يساعد العالم الديني في عبور التاريخ والوصول إلى الينابيع، هذه النظرية القرآنية المبنية على تحليل عناصر المجتمع، وفهمه فهمًا موضوعيًا وواقعيًا، تمثل أساس الاتجاه العام في التشريع الإسلامي وتبيانه، لأن التشريع الإسلامي في اتجاهاته العامة وخطوطه العريضة يتبنى وجهة النظر القرآنية ويتأثر بها ويتفاعل مع الرؤية الإسلامية إلى المجتمع وإلى عناصره الكلية، وأدوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة بين الخطين؛ خط علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وخط علاقة الإنسان بالطبيعة.
يتبع إن شاء الله..
__________________________
(1) نجف على ميرزائي: فلسفة مرجعية القرآن المعرفية في إنتاج المعرفة الدينية، ترجمة: دلال عباس، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2008، ص165.