قبل 15 عاماً، تعرفت على صديق سوري يعمل في قطاع المقاولات، وسَّع الله عليه في رزقه، فوهبه المال الكثير والولد الكثير أيضاً، فكان له من الذكور خمسة، كانت هناك فرصة للتقرب من أولاده والحديث معهم، وكنت أعجب من حديثهم المملوء بالحكمة رغم صغر أعمار بعضهم.
علمت بعد ذلك أن صديقنا هذا كان إذا بدأت الإجازة الصيفية يأخذ بيد كل ولد من أولاده ويسلمه لأحد الحرفيين الذين يعملون معه في قطاع المقاولات، فهذا للحداد، وهذا للنجار، وهذا للبناء وهكذا، حتى إذا انتهت الإجازة وجاءت الأخرى أعاد ترتيب أولاده على الحرفيين، فمن كان يعمل مع الحداد ينتقل للعمل مع النجار والعكس، فيبدو الولد مع الوقت فاهماً في كل المجالات وصاحب خبرة كبيرة في التعامل مع الناس في بيئات مختلفة.
إلى جانب أن مع الولد المال الذي يمكنه من شراء ما يرغب به، مع المحافظة عليه، ذلك أن هذا المقاول كان يؤكد على «الصنايعي» (محترف الصنعة) أن يعتبر أن هذا الولد ليس ابن صاحب الشركة، وإنما عامل عادي تماماً، وله الحق في معاملته بالشكل الذي يراه؛ لأنه سيحصل على أجر العامل العادي!
الإجازة الصيفية على الأبواب، ويحار كثير من الأهل في كيفية التعامل مع الأبناء في تلك المدة الزمنية التي تربو على ثلاثة أشهر، ويتجدد السؤال كل عام: كيف سيمضي الأبناء الإجازة؟!
تحيط الأخطار بأبنائنا من كل جانب، والفراغ طريق معبّد إلى الأخطار، وصدق الإمام المناوي صاحب كتاب «فيض القدير» إذ يقول: «وأسباب البلاء من الفراغ»، وجاء عن ابن القيم في كتابه «الجواب الكافي»: «من الفراغ تأتي المفاسد، وتتوالى المعاصي على العبد في سلسلة مدمرة، تُضعِف الإيمان في القلب وتبعده عن مولاه، فمن فرغ من عمل جاد مثمر فلا بد وأن يشتغل بما يضره ولا ينفعه، وقد قال الشافعي، رحمه الله: نفسك إن لم تشغلها بالحق؛ وإلا شغلتك بالباطل».
ومن كمال التربية أن يشغل الأهلُ الأبناءَ في كل ما هو نافع مفيد، مع التركيز على احترام قيمة الوقت ابتداءً، لأنه ما من زمن فتحت فيه أبواب الأهواء على مصراعيها كما هو الحاصل في زماننا؛ فالأبناء محاطون بالقنوات الفضائية التي تعرض الأفلام المنحلة، والمسلسلات الهابطة، ومنهمكون في متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، ومنصاتها، على ما فيها من مضيعة للوقت، وتدمير للقيم، وانعزال خلف الشاشات، وتضييع للأولويات، ومنشغلون في ظل غياب الرقابة والمتابعة بالألعاب التي تسرق الوقت، وتضعف البصر وتنمي الكسل، وتسبب الغباء، حيث أشارت دراسة نفسية بجامعة إيرلانغن الألمانية أن الكسل يجعل المرء غبياً، وأكدت الدراسة أن عدم فعل شيء يعرض الشخص لفقدان 20% من نسبة ذكائه.
وإذا ترك المجال للأبناء فإنهم في الغالب سيقضون معظم أوقاتهم في مشاهدة التلفاز وممارسة الألعاب الإلكترونية، ويتحول ليلهم نهاراً، ونهارهم ليلاً، فينمو الكسل والتراخي حتى إذا بدأ العام الدراسي الجديد بدأت المعاناة في النهوض بمستواهم الصحي والتحصيلي بعد ما شهد انخفاضاً ملحوظاً طيلة مدة الإجازة.
ولهذا، من الضروري أن يسعى الأهل لاستغلال الطاقة والحيوية التي يتمتع بها الأبناء في أمور مفيدة على المستوى القريب والبعيد وذلك من خلال المحاور التالية:
– تعزيز الجانب الإيماني: ربما كان يبرر الأبناء تقصيرهم في العبادات بسبب الانشغال بالدراسة وضيق الوقت، ما الذي يمنعهم الآن من تأدية الصلوات في مواقيتها، وحفظ القرآن الكريم، والاطلاع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام؟! وما الذي يمنع من التوسع في النوافل ومعرفة الآداب الإسلامية التي أوشكت على الاندثار كآداب الزيارة وآداب الاستئذان، وغيرها من الآداب الإسلامية الأخرى؟!
– تعزيز الجانب المعرفي المهاري: يجب أن تُستغل الإجازة الصيفية في تنمية الجوانب المعرفية والمهارية للأبناء كل بحسب عمره وبنيته المعرفية، كأن يحصل على دورات متخصصة في الحاسب الآلي، أو في الإسعافات الأولية، أو في تعلم الخط العربي، أو تعلم لغة جديدة، أو حتى إتقان مادة من المواد التي كان يعاني من دراستها طيلة العام الدراسي، أو غيرها من المواضيع التي لا غنى عنها في حياتنا.
– تعزيز الجانب الترفيهي: الإجازة الصيفية فرصة للأبناء ليروحوا عن أنفسهم من عناء ما بذلوه طول العام الدراسي، وتنوع الفقرات الترفيهية خلال شهور الإجازة يجدد النشاط ويقضي على إحساسهم بالملل.
– تعزيز المهارات الاجتماعية: الإجازة الصيفية فرصة لتدريب الأبناء على الواجبات الاجتماعية، ومن أهمها زيارة الأهل والأقارب، وزيارة المستشفيات وعيادة المرضى، والتعزية، والمشاركة في الأعمال التطوعية التي تنمي الإحساس والشعور بالآخرين.
– تعزيز الجانب المهني: من المهم خلال الإجازة الصيفية تعلم مهنة مناسبة لعمر الطفل وبنيته الجسدية والنفسية؛ لأن اتساع وقت الفراغ أمام الأبناء يجعلهم منشغلين بوسائل الاتصال على ما فيها من ألغام وأفخاخ دينية وعاطفية وجنسية، فدفع الأبناء لتعلم حرفة أو مهنة هو عين الحب والرعاية، ليدرك الابن كيف يأتي المال وكيف يحافظ عليه، وكيف يكون مسؤولاً في المستقبل، وسامح الله الآباء الذين يبرعون في تدليل أبنائهم ويربونهم في بيئة ناعمة لا يحملونهم أي مسؤولية، فيخرجون للمجتمع نماذج ألفت الراحة، تتأفف من الحياة، وتتذمر بداع وبدون داع، حتى إذا تزوج هذا الابن وأصبح مسؤولاً عن بيت وأسرة فإنه يتأفف من كثرة الطلبات فلا يرى في الزواج إلا جملة من الالتزامات المرهقة فيصب غضبه على زوجته!
مهم أن يكون لدى الآباء والأمهات خطة ذات أهداف طموحة، وواقعية لقضاء الإجازة الصيفية، تتضمن أنشطة متنوعة تجمع بين تعزيز الجوانب الترفيهية والمادية التي تغذي احتياجات الجسد، وتعزيز الجوانب الروحية والمعرفية والمهارية التي تلبي احتياجات الروح والعقل، ليساهموا بشكل كبير في تكوين الشخصية المنشودة.