ما من شك في أن الإيجابية تعد عاملاً رئيساً في بناء الأمم، ونهضة الشعوب، بل هي لبنة لا غنى عنها في التكوين الإنساني، واختلاف جوهري يميز بين شخص وآخر، وبين شعب وغيره؛ ولذلك ليس مبالغاً اعتبارها ضمن أحد مقومات التقدم والنهوض.
هي معنى وحافز وقيمة وسلوك، تتعدد وتتنوع صورها، تعني تحمل مسؤولية الواقع، والعمل على تغييره، تصاحبها معان كثيرة؛ منها: التجاوب، والتفاعل، والعطاء، والنشاط، والأمل، والصبر، والمثابرة، والجهاد، والكفاح، والنضال، وكلها معان تحمل قيماً نبيلة وأخلاقاً فضيلة.
وليس من المبالغة القول: إن حال الأمة، وما يعتريها من وهن وتراجع، يعود إلى غياب الإيجابية عن قادتها ونخبها وأفرادها، حتى تجد من ينزوي بعيداً، ويبرر لنفسه السلبية والاتكالية، مردداً: «أنا ما لي»؛ أي ليس لي شأن بهذا، أو «هو أنا هغير الكون»! متناسياً القدوة المحمدية في إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
إن النماذج عديدة وثرية بين الأنبياء والصحابة والسلف والتابعين، رضوان عليهم جميعاً، في العمل بإيجابية، والتحرك بنشاط، والتمسك بالأمل، والثقة في وعد ونصر الله؛ (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (يس: 17).
ومن الشعوب من رفضت الغط في سبات نوم عميق، وتمردت على السلبية والانهزامية، بل وانتصرت على الدمار والخراب، فسطرت معجزة بشرية مثل الشعب الياباني الذي خرج من الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وهو مثقل بالموت والألم والجراح، جراء القصف بقنبلتين نوويتين، فإذا به أصبح مارداً عملاقاً يغزو العالم بـ«صنع في اليابان»، ويجعل من وطنه أحد أكبر الاقتصادات على سطح الكرة الأرضية.
إنه سر الإيجابية، والعمل بتفان، يقول 58% من اليابانيين المشاركين في دراسة حديثة: إن السبب الذي يمنعهم من الحصول على إجازاتهم السنوية هو «الشعور بوخز الضمير».
ووفق الدراسة التي أعدتها شركة «إكسبيديا» لحجز رحلات السفر عام 2018م، كانت اليابان في ذيل قائمة الدول من حيث عدد الإجازات التي يحصل عليها الموظفون.
وتفيد إحصاءات حكومية بأن الموظفين اليابانيين لم يحصلوا إلا على 52.4% من أيام إجازاتهم السنوية مدفوعة الأجر، بسبب الرغبة في الجد والمثابرة.
أليس نحن أحق منهم بتلك الإيجابية، والتفاعل، والعطاء، حتى ننهض ببلادنا، ونجعل أوطاننا في مرتبة متقدمة على مستوى العالم.
شتان بين الإيجابية والسلبية، وقد دلل الله عز وجل على ذلك في قوله: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (النحل: 76).
لقد وصف الله سبحانه وتعالى الإنسان السلبي في هذه الآية بـ«كَلٌّ»؛ أي الثقيل الكسول، وقبل هذا فهو «أبكم» لا يرتفع له صوت، بينما وصف الإيجابي بـ«يأمر بالعدل»؛ أي حي فاعل مع الوسط الذي يعيش فيه، يحارب السلبية والكسل والظلم والتقوقع والبلادة.
إن من عظمة الإسلام أن أول كلمة نزل بها الوحي من السماء، كانت «اقرأ»، في رسالة ذات دلالة للعالمين أجمعين، بأنه دين يحض على العلم والمعرفة، والتفاعل والإيجابية، اقرأ لتعرف وتتعلم، اقرأ لتبصر النور والحقيقة، اقرأ لتتدبر وتتفكر، اقرأ لتتبين الحق من الباطل.
اقرأ قول الله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117)، لم يقل صالحون، إنما قال مصلحون؛ لأن المصلح أعلى درجة من الصالح الذي اكتفى بصلاح نفسه، أما المصلح فإنه قام بإصلاح نفسه وغيره.
وتدبر سُنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في قوله: «إذَا قَامَتْ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا»، وهنا مبالغة في الحث على فعل الخير، والحض على الإسراع به، حتى مع اقتراب الموت، والنهاية، فالمسلم مطالب فقط بالغرس، ونثر الخير، وبث الفضيلة، والإتيان بالمعروف، وعلى الله التوفيق والسداد.
كم نحن بحاجة ماسة للإيجابية؛ قادة، وحكومات، وشعوباً، أحزاباً ونقابات، مدارس وجامعات، جمعيات ومؤسسات، صحفاً وفضائيات، لنغرس كل ما هو جميل، ونرعى كل ما هو خير ومعروف.
لا تقللوا من شأن الأمر، فمن الحكمة دراسة التجارب السابقة، والتعلم من الآخرين، والمسارعة إلى نفض غبار السلبية والكسل واللامبالاة، كل في حقله، ومجاله، ومضماره.
لا تقللوا من شأن كلمة أو مقالة، بذرة أو فسيلة، شجرة أو نخلة، لبنة أو جدار، ورقة أو كتاب، دينار أو ألف، فقد «سبق درهم مائة ألف درهم» (حديث نبوي)، و«من دل على خير فله أجر فاعله» (رواه مسلم).
كن إيجابياً، فإن دينك ووطنك وأهلك في حاجة إلى ذلك.