نناقش في هذه المقالة ما يتعلق بموضوع التعليم الفقهي وحدوده وإطاره الموضوعي، وهو ما يدفعنا إلى التعرف على المعنى الاصطلاحي للفقه من حيث البدء، ثم تطوير رؤيتنا نحو مضمون التعليم الفقهي في تلك الرؤية المقترحة، وفي ذلك التحديد يمكن أن نقف على اتجاهين في تعريف الفقه:
الأول: الاتجاه الواسع؛ ويمثله في ذلك تعريف الإمام أبي حنيفة، الذي عرَّف الفقه بأنه «معرفة النفس ما لها وما عليها»، وهو بذلك يشمل: العقائد، والأخلاق، والعبادات والمعاملات.
كما يمكن أن نميز بين معنى الفقه في اصطلاح الفقهاء وفي اصطلاح القرآن: إن «الفقه» في اصطلاح الفقهاء هو هذا العلمُ المتّصل بأحكام العبادات والمعاملات، أمّا المعنى الشامل للفقه كما وردَ في القرآن فكان الكلامُ فيه مستبعَدًا؛ لأنّ الحاكم كان يفضل أن يكون الكلام في الشورى، وحدود ما له وما عليه، أمّا لغة، فكلمة فقه لها أبعادٌ غير ما استقرّ في الأذهان، فنجد أن هناك فقهًا للفلك، وفقهًا للنفس، وفقهًا للأخلاق، وفقهًا للحضارة، وهذا ما نلمحه من قوله تعالى: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام: 96)، إلى أن يقول: (وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام: 98)، ما الفقه هنا إلّا معرفة مستقرّ النفس الإنسانية قبل أن توجد، وهي في الرحم قال تعالى: (لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء) (الحج: 5).
أما الاتجاه الثاني، فهو الاتجاه المحدد والمشهور في ميدان الثقافة الإسلامية، ويرى أن الفقه هو «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسَبة من أدلتها التفصيلية، أو مجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية..»، وموضوع البحث في علم الفقه هو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية، فالفقيه يبحث في بيع المكلَّف وإجارته ورهنه وتوكيله وصلاته وصومه وحجه وقتله وقذفه ووقفه؛ لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال.
إن الفقه في ضوء هذا الاتجاه يعني: العلم بالأحكام الشرعية التي يجب على المكلف القيام بها، إذا توافرت شروط تلك الأحكام من ناحية، وشروط التكليف (للمكلف) من ناحية أخرى، استنادًا إلى البحث الدقيق في الأدلة التفصيلية عن تلك الأحكام العملية، أي إن الفقه يجيب على تساؤل: ما الذي على المكلف أن يقوم به امتثالًا للأحكام الشرعية (الثابتة)؟ وما الذي يجب أن يقوم به المكلف في موقف ما (المتغيرات والنوازل) امتثالًا أيضًا للشرع في ضوء اجتهاد الفقيه؟
نتبين هنا أن موضوع التعليم الفقهي في هذا الاتجاه يُقصد به: جملة المعارف العملية الثابتة التي يجب على المكلف تعلمها والوقوف عليها؛ حيث يؤدي استحقاقها في المواقف المعينة لها: سواء كانت عبادية أو معاملاتية تتصل بالدنيا أو بالآخرة، وأيضًا القواعد الأساسية التي تحكم سلوك المكلف ناحية المتغيرات والنوازل التي تحيط بالفرد أو المجتمع.
إذن فهدف التعليم الفقهي: إرشاد المكلف ناحية الفعل/ السلوك المطلوب من الناحية الشرعية في المواقف العبادية والمعاملاتية، والأفعال المقصودة هنا هي الأفعال الاختيارية للمكلفين، سواء كانت تصدر عنهم مباشرة أو بواسطة، والسلوك الفقهي للمكلف يكون إما بالفعل (الثبوتي) أو السلبي (أي الترك)، وعلى هذا جاءت الشريعة تحدد وجهة الفعل السلوكي للمكلف ونوعيته إما بالثبوت أو الترك.
كما يتضمن التعليم الفقهي بالإضافة إلى نوع الفعل، صفاته وهيئته أيضًا؛ أي الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الفعل؛ أي ناحية (الشكل) وهو ما يتمثل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
في ضوء الاتجاهين السابقين في تعريف الفقه وما يترتب عليهما في موضوع التعليم الفقهي، نخلص إلى ما يلي:
1- إن الفقه هو تجسيد للعقيدة والشريعة، وهو مجال إنزال القيم الإسلامية في الواقع الاجتماعي -وليس مجرد مجموعة من المعارف العملية التي يطالَب المتعلم/ المسلم بتعلمها وفقط- ويظهر ذلك من عدة نواح:
– إن الالتزام بالتكاليف الشرعية المتمثلة في الأحكام العملية للمكلف، يستلزم الاعتقاد الصحيح في الخالق أي التوحيد الخالص، فهذه التكاليف موجهة ناحية المسلمين أو المسلم البالغ العاقل، ومن غير ذلك فليس مخاطبًا بهذه التكاليف.
– إن الالتزام بالأحكام العملية التي يمثلها موضوع الفقه -في المنظور المحدد- يتطلب الوعي بمقاصد الشريعة لدى المكلف، إذ لا معنى للالتزام بحكم عملي دون الوعي بمقاصد تنزيله وغايته الدنيوية والأخروية، وذلك لأن ممارسة الحكم يجب أن يترادف معه السعي نحو تحقيق مقاصده بشمولها وجملتها.
– إن العقيدة والشريعة يمثلان الجانب النظري في عالم الإسلام، بينما يقوم الفقه بتمثيل الجانب العملي في النشاط والحركة الإسلامية، ومن ثَم تكون العلاقة بين العقيدة والشريعة والفقه علاقة تضافر وتكامل وعضوية، كما سنوضح أكثر لاحقًا إن شاء الله.
المجال التعليمي لدرس الفقه
ينقسم درس الفقه من حيث المجال التعليمي إلى ثلاثة أقسام كالتالي:
الأول: الفقه الفردي: يمكن بغرض التحليل والتعليم أن نشير إلى أهم متضمَّنات التشريعات الفردية في عدة مجالات، تتضمن ما يلي:
– المجال العبادي المحض: وهو الذي يتعلق بالعبادات المحضة، كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وكذلك النوافل، والكفارات والذكر، وما يتعلق بممارسة الجانب الأخلاقي، وشئون الطهارة، والنظافة واللباس والزينة، وغير ذلك.
إن شروط ومقدمات هذه العبادات تلامس أحكامًا تتصل بالزمان والمكان، ونوع علاقة المسلم بالمكان، والماء والتراب، والثياب، والسفر، والحضر والمال والطعام والشراب، وفي هذا الشأن أيضًا فإن تلك التشريعات (الفردية) تتعلق بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان المسلم وأكد على نظافتها وطهارتها العامة، وكذلك على حسن التعامل مع مكونات هذه البيئة من جماد وحيوان وطبيعة.
– المجال الحياتي، ويتضمن هذا المجال في تشريعات الفرد ما يتعلق بقضايا المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، والأنشطة الاقتصادية المتعلقة بها، والمتوقفة عليها مثل: التجارة، والزراعة، والحرف، والصناعات والإجارات.. والتكاليف في هذا القسم، يتداخل فيها التكليف الشخصي الخاص (الواجب العيني التعييني)، مع التكليف العام الذي يتصل بالمجتمع (الواجب الكفائي)، فما كان مما يتوقف عليه انتظام حياة الفرد، وتقتضيه ضرورته، يكون واجبًا شخصيًّا عليه، وما زاد عن ضرورته، وتوقف عليه توفير الكفاية، أو الضرورة للجماعة، أو للمجتمع، يكون واجبًا شخصيًّا ذا طابع عام، أو ما اصطُلح عليه بـ«الواجب الكفائي».
– المجال المجتمعي: ويتعلق هذا المجال التشريعي بما يتصل بالفرد من ناحية والمجتمع من ناحية أخرى، كعلاقات الأرحام والأقارب والأسرة، ومن التشريعات التي قررتها الشريعة هنا: التعاون على البر، والتكافل، وحرمة الإيذاء والإضرار، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان، وما يتعلق بآداب وواجبات المعاشرة ومحرماتها، مثل إصلاح ذات البين، والسعي في حوائج الناس، والقول للناس حسنًا، وتحريم الغيبة، والنميمة، والقذف، والكذب، وشهادة الزور، والغش وما إلى ذلك.
الثاني: الفقه الاجتماعي: يمكن أن نحدد ثلاثة معالم كبرى للفقه الاجتماعي هي: العلاقات، والمعاملات، والعقوبات، وفي هذا الصدد تشمل التشريعات ما يلي:
– ما يتعلق بالأسرة: تشريعات الزواج والطلاق والميراث والأبناء.
– ما يتعلق بالنظم الاجتماعية المالية والاقتصادية والعسكرية، والتربية والتعليم، وما يتعلق بتنظيم العلاقات الاجتماعية في المجتمع.
الثالث: الفقه الحضاري: يتعلق هذا القسم بطبيعة علاقات الأمة الخارجية، والتصور العام للتعامل مع الأمم الأخرى –غير المسلمة– والدعوة إلى الإسلام والتواصل الحضاري والتعارف الإنساني، وبناء القوة.