من القيم الراسخة في تاريخ العالم العربي النخوة العربية، إنها ليست مجرد كلمة تعبر عن المُروءة والفخر والشرف والغيرة والدفاع عن المظلوم فقط، بل هي رمز للهوية الوطنية والانتماء العربي.
ظهرت هذه النخوة في شعر عنترة الذي يدعو فيه للحفاظ على عرض جاره فيقول:
وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي حتى يُواري جارتي مأْواها
إني امرؤٌ سَمْحُ الخليقة ِ ماجدٌ لا أتبعُ النفسَ اللَّجوجَ هواها
وظهرت كذلك في «حلف الفضول»، حيث تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة.
فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته.
وكان حلف الفضول قبل البعثة النبوية بعشرين سنة، وكان أكرم حلف وأشرفه، وأول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبدالمطلب، وكان سببه أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً، وجمح، وسهماً، وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاصي، وانتهروه، فلما رأى الزبيدي الشر علا جبل أبي قبيس، عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعاً صوته فقام في ذلك الزبير بن عبدالمطلب، وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم، وزهرة، وتيم بن مرة في دار ابن جدعان، فصنع لهم طعاماً وتعاقدوا، وكان حلف الفضول، وكان بعدها أن أنصفوا الزبيدي من العاصي(1).
ومن بين المبادئ العامة التي قام عليها «حلف الفضول» ما يلي:
– نصرة المظلوم: فقد اتفقت القبائل التي اشتركت في الحلف على ضرورة نصرة المظلوم والوقوف بجانبه إلى أن يأخذ حقه.
– مقاومة الظلم والاستبداد: حرص تحالف الفضول على مقاومة الظلم وضرورة ردع الظالم ومنعه عن ظلمه.
– الدفاع عن الحقوق: اتفقت القبائل العربية الموقعة على حلف الفضول على الدفاع عن حقوق الإنسان، ويشكل هذا الحلف الوثيقة الأولى في حفظ وحماية الحقوق العامة للإنسان.
– حماية الكعبة الشريفة ممن يريدون بها شراً: وكان هذا أعلى الحقوق قدسية عند القبائل العربية، فقد اتفقت على ضرورة حماية الكعبة من كل عدوان، وعلى حرمة الدم عامة وأمام الكعبة وفي الأشهر الحرم خاصة.
– نشر قيم الأخوة والتآزر والتعاون على فعل الخير: لقد أكد الحلف على مبادئ إنسانية تنسجم مع الفطرة السليمة، منها: تعزيز قيم الأخوة والتآزر والتضامن والتكافل والتعاون على حب الخير ونشر الفضيلة(2).
الإسلام يزكي النخوة العربية
لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الحلف: «شَهِدْتُ حِلْفَ بَنِي هَاشِمٍ، وَزَهْرَةَ، وَتَيْمٍ، فَمَا يَسُرُّنِي أَنِّي نَقَضْتُهُ وَلِيَ حُمْرُ النَّعَمِ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ الْيَوْمَ لأَجَبْتُ عَلَى أَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَأْخُذَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ»(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره»(4)، وقال صلى الله عليه وسلم: «منْ أعانَ ظالمًا ليدحضَ بباطلهِ حقًّا، فقدْ برئتْ منهُ ذمةُ اللهِ ورسولِهِ»(5).
ولما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: «ألا تحدثون بأعجب شيء رأيتم بأرض الحبشة؟»، فقال فتية منهم: يا رسول الله، بينا نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائزهم تحمل قُلَّةً من ماء، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها على ركبتيها، فانكسرت قُلَّتُها، فلما ارتفعت التفتت فقالت: سوف تعلم يا غُدَر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، أتعلم أمري وأمرك عنده غدا، فقال رسول الله: «صدقت، كيف يقدس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من قويهم!»(6).
وقد أمرنا الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى ونهاناً عن التعاون على الإثم والعدوان، فقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 3).
أين النخوة العربية اليوم؟!
أتساءل ويتساءل معي كل غيور على عروبته وإسلامه: أين النخوة العربية مما يحدث لإخواننا في فلسطين؟!
أين هذه النخوة مما يحدث في غزة من قتل وتشريد وخراب ودمار جراء حرب مجنونة يشنها كيان محتل تحت قيادة إنسان معتوه مدعوم بدعم لا محدود من أمريكا، والغرب في مشهد يُعد وصمة عار في جبين الإنسانية، لم ولن ينساها التاريخ؟!
لا شك أن ما يحدث مع غزة من «دعم أعمى» لاحتلال يتجاهل دماء الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في هذه الأرض المحاصرة التي تبحث عن السلام، دعم يتجاهل الإبادة ومحاولات التهجير على مرأى الجميع، بل دعم تسبب في العجز عن إدخال المساعدات الإنسانية رغم أن هناك 2.300 مليون إنسان يعيشون دون ماء وكهرباء، ودون غذاء ودواء.
يتساءل كل من يحترم الإنسانية وهو يرى قصفاً جنونياً وجرائم حرب كل يوم، وعلى مدار أكثر من عشرين يوم، أين حق الحياة التي كانت تتغنى به أمريكا والغرب مما يحدث في غزة؟!
إننا لا نطالب الدول العربية والإسلامية بإعلان الحرب على هذا الكيان المجرم، فنحن نعرف ظروف هذه الدول وأنها تعاني من مشكلات كثيرة تسبب فيها غياب الرؤية المستقبلية لأحوال المنطقة، وكذلك مخاصمة بعض الحكام لشعوبهم!
ولكننا نطالبهم باستنكار هذا الإجرام الصهيوني ومطالبة المجتمع الدولي بالضغط على هذا الكيان لوقفه فوراً، وإيصال المساعدات إلى الشعب الفلسطيني وخصوصاً أننا عندنا الحدود المشتركة التي تحت تصرفنا مع غزة، وليس من المقبول أن ننتظر إذن الكيان الصهيوني لإدخال هذه المساعدات!
وأخيراً أقول للعرب ما قاله الشاعر محمود مزة:
وإذا تركت أخاك تأكله الذئابُ فاعلم بأنك يا أخاه ستُستَطابُ
ويجيء دورك بعده في لحظةٍ إن لم يجئْكَ الذئب تنهشكَ الكلابُ
إن تأكلِ النيرانُ غرفة منزلٍ فالغرفة الأخرى سيدركها الخرابُ
__________________________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 133).
(2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 134-135)، والرحيق المختوم، وفقه السيرة النبوية للبوطي.
(3) أخرجه البزار في «المسند» (1/ 185).
(4) صحيح البخاري (2444).
(5) أخرجه الطبراني (11216)، وأخرجه أيضاً في الأوسط (2944).
(6) مختصر العلو، الألباني (59).