الجيل الفذ الفريد الذي صنع مجد أمة الإسلام، وأسَّسَ لحضارتها، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها بأنوار هذا الدين العظيم، ففتح الله لهم قلوب العباد، وشرحها للإسلام، قبل أن يفتحوا البلاد بحد الحسام، إنه جيل الصحابة – رضي الله عنهم – الذي تربّى في مدرسة محمد – صلّى الله عليه وسلّم – على مائدة القرآن الكريم الذي كان له بالغ الأثر في إعادة صياغة شخصياتهم، وتهذيب نفوسهم، وصناعة أحلامهم، والارتقاء بأهدافهم وطموحاتهم، فحوّلهم هذا الكتاب الكريم من أمة تعمّها الفوضى، وتبعثرها العبثية، إلى أمة تحمل مشروع الهداية الخالد للعالمين فتقود به الركب، وتسود به الدنيا، ونقل القرآن الكريم أبناء هذه الأمة من ذل التبعية وتعدد الولاءات إلى عز الريادة وتسيّد الدويلات، فأضحت دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان يتدارس فيها الصحابة مع النبي – صلّى الله عليه وسلّم – آيات الكتاب المبين جامعةً تُخرّج العلماء والقادة والمجاهدين والساسة والعباقرة.
تلك المكانة التي صنعها جيل الصحابة القرآني لهذه الأمة بدأت تتراجع شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن حتى وصلت الأمة إلى الواقع الذي نعيشه اليوم، حيث أصبحت فريسةً ينهشها ضباع العالم من المحتلين والمستعمرين والطامعين، فلا تكاد تجد بلداً من بلاد الإسلام إلا وقد حلّت به مصيبة، وألمّت به نكبة شرّدت أهله، ونهبت خيراته، وما هذا الضعف الذي تعيشه الأمة اليوم إلا بسبب بُعدها عن مصدر عزتها، ومكمن قوتها، الذي سادت به الأمم، وارتقت به إلى القمم، فكانت عاقبة هجرانه ذلاً وتخلفاً وتراجعاً وتبعيةً لأعداء هذه الأمة من الشرق والغرب الذين وجدوا الفرصة سانحة ليكيدوا المكائد، ويُحيكوا المؤامرات التي تساهم في إبعاد الأمة عن كتاب ربها.
والمتابع لما يجري في الأرض التي بارك الله فيها وحولها من أحداث بدأت في السابع من أكتوبر الماضي عندما مزّقت ثلة من المجاهدين أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وأذاقوهم مرارة الهزيمة في مواجهة غير متكافئة من حيث العدد والعدة، يدرك أن هذه المجموعة من المجاهدين المتحصنين بحاضنتهم الشعبية من أهل غزة الصامدين لم يتحركوا عبثاً ولا مصادفة، بل إن هذه المواجهة الأسطورية التي أبهرت العالم في مختلف فصولها لم تكن سوى ثمرة لتربية قرآنية غرس بذرتها منذ عقود شيخ غزة المجاهد الشهيد أحمد ياسين – تقبله الله – وصحبه الذين شاركوه الهمَّ والعمل والجهد والجهاد من أجل تربية هذا الجيل القرآني من أبناء غزة الصامدة، فأسسوا حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد، وأقاموا المشروعات القرآنية النوعية كالمعسكرات الصيفية، ومشروع صفوة الحفاظ الذي يسرد فيه الحفاظ القرآن في يوم واحد، ورعوا غرسهم المبارك، وسقوه بدمائهم الزكيّة حتى أزهر شباباً حُفاظاً مرّغوا أنف العدو في التراب، وداسوا بأقدامهم الطاهرة آلته الحربية التي طالما تباهى بها أمام العالم سنين طوال، وفي ذلك درس للأمة كلها بأن طريقها نحو المجد والتحرير واستعادة المكانة يبدأ من تمسكها بكتاب ربها، وإقبالها عليه تلاوةً وحفظاً وتدبراً وعملاً وتحكيماً، لأنه مصدر العزة والمجد والتمكين.
” لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ “