نكمل في هذا المقال الجهاد في الإسلام الذي يعد إحدى أهم الشعائر التي قامت عليها الدعوة، وبنيت عليه الحضارة الإسلامية، وبراءة السلف من أفهام المثبطين عن الجهاد والقيام به.
لقد جلس بعض المخذلين خلف الصفوف، ولما رأوا أن جلوسهم مخزياً لا وجه له، ذهبوا يلتمسون المعاذير لجلوسهم وقعودهم، وهذا شأن معروف؛ فإن من ترك خلة من الخير ذهب يلتمس لنفسه حجة دامغة في تركها، ومن جبن في ساحة الشجاعة مدح الجبن، وقد قال المنافقون بالأمس: (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) (آل عمران: 168)، فكم من هؤلاء المخذلين من يرى صورة القتل المتوحش والدمار فيقول: لو قعدوا ما ماتوا وما قتلوا، ولكن الله تعالى رد حجتهم وأبطلها فقال: (قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران: 168).
بل لبَّس بعضهم على العامة باجتزاء كلام من سطور كتابات بعض أهل العلم، ليكتسي تثبيطه بلباس الحق والصحة، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أنه قال: تبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، ولأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم(1).
وهذا الكلام قاله ابن القيم في زمن كان بمقدور كل فرد في الأمة حمل السلاح، فما إن يصرخ صارخ الجهاد إلا وينهمر الناس من كل حدب وصوب، فكل الأمة آنذاك بمقدورهم حمل السلاح ومنازلة العدو، فكأن ابن القيم لحظ هذا، ورأى أن وجود طائفة تعمل على بناء النفوس وعدم انصراف كآفتهم للجهاد أمر مطلوب.
كما أن ابن القيم لم يخرج ليصرخ في وجه مجاهد يحمل سلاحه في سبيل الله في وقت احتدام المعركة ليأمره ويذكره بأن المجاهدة بالسنن أولى من مجاهدة الكفار المغتصبين للديار والمقدسات.
كما لم يلتفتوا لبقية كلامه في سائر كتبه وهو يعلي من شأن الجهاد ويبين قيمته حيث قال، في صفات المعرضين عن طلب الجنة بالجهاد: «فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة، لم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة، وقيل: لا تقبل العدالة إلا بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) (المائدة: 54)، فتأخر أكثر المدعين للمحبة، وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه العقد فإن (اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة: 111)، وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن عرفوا أن للسلعة قدراً وشأناً ليس لغيرها من السلع، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)»(2).
الحرية والعبودية
إن ثمن الحرية باهظ التكاليف، لكن كلفة العبودية والرق أكثر ثمناً، وأكثر كلفة، وبعض الجبناء يؤثر العاجلة على الباقية، وبعض العبيد يرفض الحرية، ويأبى إلا أن يكون في طوق السلاسل طول العمر؛ إيثاراً لمغانم توشك أن تتحول، أو لأمن يوشك أن يتبدل، أو لطعام يوشك أن يعقبه جوع وعري، وما درى أن الله لم يرض للمؤمنين بشريعته أن يُستذلوا، أو يحكمهم من حرَّف كتاب الله، وأجرى الذلة عليه، وبعض من يصلي ويسبح بحمد الله ممن تسبب في مد الحبل لليهود، وهو يظن أنه يحسن الصنع، وما درى أنه أحد جذور البلاء، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ولا يحمل كلام السلف ما لم يقصدوا، ولا ينسب لهم ما هم بريؤون منه، وقديماً خرج طالوت بجيش ضخم، فلم يثبت معه في الجهاد إلا القليل، حتى هذا القليل قالوا له: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) (البقرة: 249).
كم من المسلمين اليوم يردد هذا الكلام على مسامع المرابطين، لكن: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ) (البقرة: 249)!
كم بيننا من يتمنى الجهاد ويذكر به في دروسه وخطبه، ثم يتخلفون عن المنازلة وقت الجد فرحاً بمقعدهم خلاف المجاهدين، وضناً بأرواحهم التي هي بيد الله! ولكن سُنة الله ماضية، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكاً ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان»(3).
________________________
(1) جلاء الأفهام (5/ 70).
(2) زاد المعاد (3/ 66).
(3) المعجم الكبير للطبراني (11/ 88).