يسيطر على عالمنا اليوم مفهومان رئيسان يفسران شكل النظام الدولي في العصر الراهن؛ وهما التبعية والهيمنة، فالهيمنة سيطرة مجموعة من الدول والكيانات والمنظمات الأكثر قوة وثراءً على نظيرتها الأقل قوة وثراءً عبر عدد من الأدوات التي تُكرس تبعية تلك الأمم والدول والكيانات الفقيرة والضعيفة، وتضمن استمرار تراتبية الهرم الاقتصادي والسياسي الدولي على حالته أطول فترة مُمكنة، من دون إمكان كسر إحدى الدول لتلك الهيمنة.
النموذج التفسيري الثنائي القائم على مفهومي هيمنة/ تبعية هذا يمكن استخدامه لفهم وإدراك أغلب مراحل التاريخ المتعاقبة، إذ عمدت الدول المهيمنة في كل عصر على تكريس سيطرتها على أدوات الإنتاج ومكامن القوة دولياً من خلال بسط نفوذها على أكبر عدد من «التابعين»، وخلق شبكة من الاعتمادية ومحو الهوية وإلغاء الآخرين وإضعاف مواضع يقظتهم فكرياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً باستمرار.
التعليم.. رأس المال الثقافي
ولطالما تمثل الشكل الأفضل للهيمنة عبر العصور في القوة الغاشمة عبر الحروب الممنهجة مثل الاحتلال العسكري الغربي الذي أُطلق عليه تزييفاً «استعمار» في العصر الحديث، أو عبر التدمير الساحق مثل حملات التتار على العالم الإسلامي، على سبيل المثال.
وفي العصر الراهن، انتقلت الهيمنة إلى طرق أكثر نعومة وأقل عنفاً دون الاستغناء كلياً عن القوة الغاشمة، فأصبحت الأدوات الفكرية والثقافية في صدارة أساليب الهيمنة على الأمم والدول الأكثر فقراً وتخلفاً، وأصبح لدى الأمم الأقوى والأغنى طيف واسع من الخيارات التي تمكنها من تكريس تبعية الآخرين لها، وعلى الرغم من أن تلك الأدوات كانت متاحة عبر العصور عبر أدوات التنصير، على سبيل المثال، فإنها كانت مباشرة ومصاحبة للحملات الاستعمارية العسكرية، أما فرض التعليم بلغة الاحتلال كان يتم بالقوة الجبرية؛ مما خفض من فاعلية تلك الأدوات فيما مضى، أما اليوم أصبحت أدوات الهيمنة الثقافية والفكرية أكثر تلاعباً وأقل صدامية.
وفي القلب من أدوات الهيمنة الثقافية والفكرية يأتي التعليم باعتباره الوسيلة الأنجع في تغييب العقول واحتلال الوعي في مراحل مبكرة من عمر النشء، حيث يكون الإنسان في سنواته الأولى أقل قدرة على المقاومة وأكثر استعداداً لهضم أدوات التبعية، فيتم خلق أجيال كاملة من التابعين؛ مما يجعل أي مهمة للتوعية فيما بعد عسيرة، إذ تكون أفكار الهيمنة والاستلاب الحضاري قد استقرت في عقول وأفكار الشباب والأطفال.
ومن أبرز وكلاء تلك السيطرة الثقافية والفكرية: وكالات الإعلام، السينمات، منظمات المجتمع المدني، الكتب ودور النشر، الجامعات والمؤسسات الخيرية، المدارس الدولية، بل حتى المنتجات الاستهلاكية.
مناهج التعليم وتكريس التبعية
واليوم يستخدم التعليم للإبقاء على القيم والعلوم والأفكار التي تكرس هيمنة الأقوى باعتبارها العلوم الأكثر تقدماً، بينما يتم إهمال العلوم والأفكار التي تهدد تلك الهيمنة باعتبارها علوماً أقل أهمية وغير جديرة بالدراسة، ويتجلى ذلك بوضوح في تكريس دراسة العلوم التجريبية والتطبيقية كالهندسة والطب، بينما يتم إهمال مناهج اللغة العربية والدين والتاريخ والفلسفة والتربية وتهميشها باعتبارها علوماً أقل حداثة وأكثر تخلفاً ودراستها لا تؤهل لتحقيق الطالب لأي مكاسب أو مكانة في سوق العمل.
وتتمثل أهم أساليب الهيمنة عبر التعليم في الآتي:
– استحداث منظمات دولية تراقب المناهج التعليمية، وتُلزم الدول باتباع توجيهاتها بشأن تعديل المناهج بما يلائم القيم الخاصة بتلك المنظمات التي تخدم بالأساس الدول الأقوى في النظام الدولي، إذ تُعد تلك الدول الراعية لتلك المنظمات والممولة لها، ومن أمثلة تلك المنظمات «اليونسكو» و«IMPACT-SE».
– استخدام الدول ذات الاقتصادات الأغنى لنظام المنح والمساعدات عبر نظام مشروطية تُجبر الدول الفقيرة التي تتلقى المساعدات على صرفها بشكل معين في مجالات محددة، وتحقق الإصلاحات والإملاءات التي تمليها الدول والجهات المانحة سواء في الاقتصاد أو التعليم.
– عقد مؤتمرات دولية برعاية الدول الأكثر قوة وثراء لوضع منظومة من القيم والمبادئ التي يتم صياغتها كإطار دولي موحد يجب على كل الدول اتباعها حتى لا يتم نبذها دولياً.
– استحداث نظام تعليم دولي يتم وضع مناهجه بشكل موحد عابر لحدود الدول القومية، وهو ما يهدد خصوصية الدول ويرسخ العولمة والاحتلال الثقافي ويشرعنه كنظام تعليمي داخل الدول مستقل كلياً عن إرادة الشعوب والدول، ويخلق ثنائية داخل الدول بين النشء الحاصل على التعليم المحلي والحاصل على التعليم الدولي.
– وضع معايير وتصنيفات تعليمية دولية من جانب الدول الأكثر تقدماً يتم إرساؤها باعتبارها المعيار الوحيد للمؤسسات التعليمية الناجحة، تتسابق الدول فيما بينها لإقرار تلك المعايير وإلزام مؤسساتها الجامعية والبحثية بالسعي لتطبيقها وإصلاح أنظمتها الداخلية بما يلائم تلك المعايير المفروضة من الخارج.
– تهميش دراسة الدين باعتباره مادة أقل أهمية على الصعيد العلمي والعملي، وتسطيح المعلومات والأفكار المدرجة في المناهج التعليمية الدينية.
– استخدام مادة التاريخ لتزييف الحقائق وتضليل وعي الأجيال الجديدة بحقائق أمتهم، وأبرز أحداث التاريخ الإسلامي والعربي، وتمييع القضايا القومية وفي مقدمتها تاريخ الاحتلال الغربي والصراع العربي «الإسرائيلي» تحت دعاوى الانفتاح على الآخر والتسامح.
الحضارة والموسوعية
إن المتأمل لتاريخ العلم والحضارة في الإسلام يجد أن أبرز سمات علماء الإسلام هي «الموسوعية»، فالعالم المسلم لم يكن مجرد كيميائي أو فلكي أو طبيب، بل جمع هؤلاء كلهم خلفيات علمية نهلت من الفلسفة والرياضيات والفقه والقضاء والمنطق، وقبل كل ذلك حازوا خلفية قرآنية متعمقة وحصافة لغوية ثرية واعتزازاً بالإسلام كمظلة حضارية انضوى تحتها هؤلاء العلماء حتى ولو لم يكونوا من العرب.
وهذه الموسوعية ودراسة فروع متنوعة ضمت اللغة العربية والتفقه في الدين الإسلامي، وفهم مبادئ الفلسفة والمنطق، والتدبر وإعمال العقل والاجتهاد وإدراك لمحورية الهوية الإسلامية؛ كانت الرافعة التي بنى عليها علماء الإسلام حضارة انعكس إشعاعها الثقافي؛ فملأ أرجاء الكون نوراً.
أما التعليم اليوم الذي ينطلق من أرضية حداثية غربية فقد فرض التخصص الدقيق بغرض فصل الإنسان عن الثقافة العامة التي تهيئ لنشوء العقلية الاستقلالية والفهم المتعمق لدى الشباب والنشء، كما فرض ذلك التعليم الغربي تقديس اللغات الأجنبية على حساب اللغات المحلية، باعتبار تلك اللغة الأجنبية المؤهل لسوق العمل؛ مما أسهم في تراجع الإقبال على دراسة اللغة العربية، فضلاً عن انخفاض التقدير والاعتزاز بها، وهو ما صاحبه تراجع في كل ما يرتبط بتلك اللغة من تعمق في فهم القرآن الكريم وقراءة كتب التراث العربي، في مقابل زيادة الإقبال على المدارس الدولية والأجنبية.
على طريق المواجهة
يصبح السبيل الأهم في مواجهة التبعية والاستلاب الحضاري الذي يمارسه الغرب عبر أدوات ثقافية وفكرية بالأساس هو عبر معركة الوعي، ويتطلب الوعي ابتداء إدراكاً متعمقاً لنظرية التبعية ومخططات احتلال العقل، ولا يتأتى ذلك دون تعويل كبير على العقل كسلاح أساسي، وهو السلاح الذي تخلى العرب عن استخدامه منذ زمن طويل، فتشجيع الاجتهاد وليس تحريمه هو الملاذ الآمن لمواجهة التبعية، وذلك عبر مناهج تعليمية تحض على النقد والتعقل وتستوعب مخرجات التحديث الغربي اللازمة للإنتاج والعمل دون التماهي كلياً مع أدوات تلك الحضارة لتكريس هيمنتها على العالم، والاستعاضة بديلاً عن ذلك بأدوات ثقافية نابعة من الذات تنمي الهوية وتكرس الاستقلال ومقاومة التبعية لدى النشء عبر رفض البديهيات والمسلّمات التي تعتبر الغرب بداية التحضر ومركزاً للتاريخ.