لم يكن غريباً على المتابعين للشأن السوداني أن تكون أحد أسانيد «قوات الدعم السريع» في حربها وتمردها على الجيش السوداني تفكيك لكل مقومات الدولة السودانية التي تشكلت وترسخت بعد نيل السودان استقلاله في العام 1956م.
بالإضافة إلى المزاعم التي رفعها ثنائي «الدعم السريع» و«قوى الحرية والتغيير»؛ وهي القضاء على ما يطلقون عليه «الكيزان»، أو بقايا حكم التيار الإسلامي للبلاد، وهو بالطبع خطاب تسويقي يقدم للدول الكبرى لنيل رعايتها وتأييدها، توسع هذا الثنائي في هدفه وأعلن أنه ليس فقط يريد القضاء على الإسلاميين، ولكنه يريد تفكيك كل معالم الدولة ومقوماتها، وصناعة دولة بديلة تقوم على أساس علماني، وثقافة أفريقية، وسلطة لا تنتمي لكل ما كان قائماً قبل الثورة أو بالأحرى الانقلاب على نظام الرئيس عمر البشير.
وهكذا عادت مفردات خطاب التهميش، وضرورة تفكيك دولة الاستقلال مرة أخرى على ألسنة قادة الحركة الشيوعية، وممثليها في قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، وهو التحالف المساند سياسياً وإعلامياً وثقافياً لتمرد «الدعم السريع».
«الدعم السريع» بدعم «الحرية والتغيير» يريدان القضاء على الإسلاميين وتفكيك الدولة ومقوماتها
وجاء خطاب تحالف «الدعم السريع» مع مدَّعي التهميش، وقادتهم في القوى السياسية في تحالف ما يسمى بالمجتمع المدني، وقوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، حول ضرورة التخلص من «دولة 1956»؛ وهم يقصدون بذلك تشكيلات الدولة السودانية التي حكمت البلاد بعد استقلالها في يناير 1956م، حيث يزعمون أن قلة من العرب المسلمين هم مَن سيطروا على كل مفاصل الدولة والثروة في البلاد، واستبعدوا وهمَّشوا المجموعات الأفريقية في شرق وغرب وجنوب السودان، كما يزعمون أن القبائل العربية في وسط وشمال السودان التي تشكلت منها «دولة 1956» لا تتجاوز نسبتها 40% من إجمالي عدد سكان السودان، الذين يبلغون الآن 45 مليون نسمة.
ويقود التيار اليساري، هذا التحالف الذي يتبنى فكرة التهميش، الذي تتسع مكوناته لتشمل المجموعات العلمانية، ونشطاء المنظمات الدولية، وكل تلك المجموعات التي تحترف التسول أمام السفارات الأجنبية في الخرطوم بزعم الاضطهاد والتهميش.
التهميش والاضطهاد
وفي هذا السياق، قام أنصار هذا التيار بنشر عدة كتب ومقالات ودراسات ترسخ فكرة التهميش والاضطهاد، وتطالب بإزالة الدولة السودانية، وتفكيكها «حجراً حجراً»، على حد قولهم، وطرد كل مَن له علاقة بالعرب، أو ما يطلقون عليهم الأقلية، والمجيء بتلك الهوامش الأفريقية لحكم السودان.
ويلقى هذا الخطاب العنصري البغيض دعماً غيرَ محدود في أوساط صناع القرار بالإدارة الأمريكية وعواصم الغرب، إضافة إلى دعم بعض دول الجوار الأفريقي، ومن مختلف التوجهات الشيوعية والعلمانية في الوطن العربي والقارة السمراء، ومن المؤسف أن هذا الخطاب أصبح يمثل مصدراً للاسترزاق المالي والسياسي، حتى إن أنصاره لا يعملون في أي مهن أخرى إلا التحرك في داخل السودان وخارجه لتبني والدفاع عن هذا الخطاب الذي يدر لهم الأموال أينما ذهبوا، ويمنح أيضاً الجنسية والجواز الأوروبي، وهو الحلم الذي يداعب جميع أفراد هذا التيار، الذي يدّعي الثقافة في السودان.
التيار اليساري ينشر كتباً ومقالات ترسخ التهميش والاضطهاد وطرد كل مَن له علاقة بالعرب
وفي متابعة لسلوكيات قادة هذا التيار، فإن التمسك بخطاب التهميش يمثل خياراً نهائياً لا يمكن التخلي عنه، ليس في قناعات فكرية، ولكن لأن هذا الخطاب هو المفتاح السحري للرضا الأمريكي عن متبنيه، كما أنه سلم الارتقاء إلى الطبقات العليا في المجتمع لما يدره من أموال الدعم، وأيضاً هو تصريح المرور المؤكد للوصول إلى العواصم الأوروبية والحصول على جنسيتها، بل العمل في جامعاتها كخبراء في الشأن السوداني، مما يزيد الأمر تعقيداً.
ومن خلال هذه الحقائق، يمكن تفسير التساؤل الملحّ في الشارعين السوداني والعربي الآن: من أين أتى رموز التيار المعادي للدولة بكل هذه الجرأة والشجاعة التي تجعله يخاطب الجماهير خارج السودان، ويعقد المؤتمرات ويتحدث وكأنه صاحب الدولة، وصاحب السلطة، وربما يشكل الحكومات لما بعد انتهاء الحرب، وهو التيار الذي يجب أن يُحاكَم بتهم متعددة من بينها المساهمة مع «الدعم السريع» في ارتكاب جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، خاصة أنه وقف إلى جانب التمرد منذ يومه الأول حتى الآن، وشكَّل مظلة سياسية وأمنية لجرائم التمرد؟!
أسرار التمرد
وهكذا يبدو جلياً أن من بين أسرار الحرب التي يقودها «الدعم السريع» في مختلف ربوع السودان الآن، أن التمرد وأتباعه من قوى الحرية والتغيير لا يستهدفون فقط الوصول إلى مقاعد السلطة في البلاد، ولكنهم وبشكل علني ودون مواربة يسعون إلى تغيير كل تركيبة الدولة السودانية، وعلى رأس هذه الأهداف طرد كل المجموعات العربية ليس فقط من السلطة، ولكن من السودان واستبدال مجموعات أفريقية بهم.
خطاب التهميش وتفكيك «دولة 1956» هو نفسه الذي رفعته الحركة الشعبية عام 1984م
وهو ما حدث بالفعل على أرض الواقع، حيث يشارك الآن مع قوى التمرد في السودان عشرات الآلاف من دول أفريقية كالنيجر وتشاد والكاميرون وأفريقيا الوسطى وغيرها، وهم قاموا بالفعل باحتلال بيوت المواطنين، وتم طرد أصحابها منها واستولوا على سياراتهم وأموالهم، وبيوتهم، وكل ما بها، ويتحركون الآن باعتبارهم أصحاب الأرض والبيت والشارع، وهذا جزء يسير من محاولة فك طلاسم الحرب في السودان.
والغريب أن خطاب التهميش وتفكيك «دولة 1956»، هو نفسه الذي رفعته الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أعلنت تمردها في عام 1984م على الدولة المركزية في الخرطوم، وكان أحد قياداتها ياسر عرمان الذي يعمل الآن مستشاراً لقائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو، الملق بـ«حميدتي»، وهو الخطاب الذي تم تسويقه في العواصم الأوروبية وكسبت به الحركة الجنوبية التأييد السياسي والإعلامي والعسكري والمالي من كل الدول الأوروبية، وهو ما ساعدها على اقتطاع جزء كبير من جنوب البلاد، وإعلان دولتها المستقلة في عام 2011م، والسيطرة على كل حقول النفط وخطوط نقله إلى الشمال، وكان الانفصال أول اقتطاع للدولة السودانية تحت شعار «محاربة التهميش وتفكيك دولة 1956».
فهل يشكل عودة الخطاب مؤشراً إلى أن جزءاً آخر من السودان سوف يتم اقتطاعه في الغرب لإعلان دولة جديدة تتحرر، وفق زعمهم، من هيمنة «دولة 1956»؟!