إن المتابع للقروض الربوية في السنوات القليلة الماضية يجد أنها كانت العامل المؤثر في اندلاع الأزمة المالية العالمية في العام 2008م، حيث انفجرت تلك الأزمة بصورة أساسية نتيجة فقاعات ثلاث: سعر الفائدة، وبيع الديون، والمقامرة، فقد عمدت البنوك والمؤسسات المالية وفي مقدمتها بنوك الاستثمار التي لا تخضع لرقابة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى إغراء الأمريكيين بتملك العقارات بدلاً من تأجيرها، من خلال القروض العقارية وما ارتبط بها من فقاعة الربا، ففي ظل سيادة الجشع (Greed) ونزوة الربحية ورغبة أعضاء مجلس الإدارة في الحصول على مكافآت سخية من جراء الربحية قصيرة الأجل، ونقل المخاطر إلى مؤسسات شراء الديون والتأمين تغاضت تلك المؤسسات عن السجل الائتماني للعملاء ومدى مقدرتهم على السداد، ويسرت لهم تخفيض قيمة الأقساط في السنوات الأولى للاقتراض.
وكان هذا دافعاً أيضاً للأمريكيين لشراء عقارات بغرض استثمارها في ظل تلك التسهيلات المصرفية، وفي ظل تنامي الارتفاع في أسعار العقارات، بل عمد أصحاب العقارات المرهونة إلى رهن عقاراتهم المرهونة أصلاً للحصول على قروض للاستثمار في شراء عقارات برهن عقاراتهم المرهونة أصلاً رهناً آخر من الدرجة الثانية، بل الثالثة، نتيجة إعادة تقييم العقار لارتفاع سعره، وبذلك انتشرت الرهون الأقل جودة (Subprime).
وقد بالغت البنوك الأمريكية في الإقراض العقاري حتى تجاوزت نسبته أكثر من ستين ضعف حجم رؤوس أموال الكثير من تلك البنوك؛ وهو ما أدى إلى أضعاف مضاعفة من خلق النقود.
القروض الربوية كانت العامل المؤثر باندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008م
وفي ظل منح القروض العقارية بسعر فائدة معوم؛ أي متغير، ومع الارتفاع المتوالي لسعر الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ عام 2004م، فقد انعكس هذا الارتفاع على تلك القروض؛ حيث أدى إلى زيادة في أعبائها من حيث خدمتها وسداد أقساطها، حتى بلغت تلك القروض نحو 1.3 تريليون دولار في مارس 2007م، وتفاقمت تلك الأزمة مع حلول النصف الثاني من عام 2007م، حيث توقف عدد كبير من المقترضين عن سداد الأقساط المالية المستحقة عليهم؛ مما ترتب عليه تحميلهم أعباء إضافية نتيجة لهذا التأخير وفقاً لسياسة سعر الفائدة المركبة.
وهو ما أدى إلى زيادة في تعثر أصحاب القروض المتعثرين أصلاً، وترتب على ذلك قيام المؤسسات المالية المقرضة بالتنفيذ على الرهون العقارية؛ مما أدى إلى فقدان الآلاف لمنازلهم المرهونة، واندرج ذلك على سوق العقارات، حيث أدى زيادة المعروض منها إلى انخفاض أسعارها؛ وهو الأمر الذي زاد من مخاطر تلك القروض العقارية وأدى بالعديد من العملاء المنتظمين إلى التوقف عن السداد أيضاً، حيث إن ما تبقى من أقساط على عقارهم أصبح يفوق بكثير القيمة الحالية للعقار نتيجة الانخفاض في الأسعار.
فقاعة التوريق
ولم تقتصر المؤسسات المالية الأمريكية على التوسع في الإقراض من خلال الديون العقارية، بل عمدت إلى توليد موجات متتالية من الأصول المالية بناء على أصل واحد عن طريق المشتقات المالية (Financial Derivatives) التي استخدمتها لتوليد مصادر جديدة للتمويل، وبالتالي للتوسع في الإقراض من خلال فقاعة التوريق أو التسنيد (Securitization) للديون العقارية، من خلال قيام البنك أو المؤسسة المالية منشئة الأصول بطرح سندات مقابل ما لديها من الرهون العقارية المدرة للدخل، أو بيع هذه الديون مباشرة إلى مؤسسات مالية أخرى متخصصة في شراء الديون، وعادة ما تحصل مؤسسات شراء الديون على خصم على قيمة هذه الديون، ثم تقوم بتوريقها في صورة سندات قابلة للتداول ومضمونة بتلك الرهون، وتستخدم حصيلة القروض من فوائد وأقساط في خدمة السندات التي تم إصدارها.
وبذلك عمل التوريق على تحويل القروض المصرفية إلى أوراق مالية قابلة للتداول، وتوفير السيولة اللازمة لمتابعة البنك أو المؤسسة المالية لنشاطها الاستثماري دون الانتظار حتى تاريخ الاستحقاق لاستعادة قيمة القرض، وفي الوقت نفسه عمل التوريق على إصدار موجة ثانية من الأصول المالية بضمان الرهون العقارية، وهو ما خلق هرماً مقلوباً نتيجة لمضاعفات الديون التي لا يكفي ما يقابلها من الأصول مما فاقم من المخاطر، فقد نتج عن عمليات التوريق زيادة في معدلات عدم الوفاء بالديون لرداءة العديد من تلك الديون، مما أدى إلى انخفاض قيمة السندات المدعمة بالأصول العقارية في السوق الأمريكية بأكثر من 70% مما فجر الأزمة المالية العالمية.
الربا ما هو إلا خلية سرطانية تحُول بين المال وأداء وظيفته في الاقتصاد
ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل برزت المقامرة من خلال تأمين حاملي السندات العقارية على أصل تلك السندات وعوائدها لدى شركات التأمين، وفي حالة فشل المقترض ممثلاً في مشتري العقار في الوفاء بما عليه من التزامات تقوم مؤسسة التأمين بسداد مستحقات حامل السند ثم يتم بيع العقار فيما بعد، وتحصل شركة التأمين على مستحقاتها.
خسائر بالغة
وقد انعكس تعثر عملاء الديون العقارية وكذلك رداءة سندات تلك الديون وانخفاض القيمة السوقية لأصولها العقارية بصورة مباشرة على شركات التأمين من خلال مطالبة حاملي تلك السندات شركات التأمين بتغطية خسائرهم، وكان من نتيجة ذلك أن تكبدت أكبر مؤسستين للرهن العقاري في الولايات المتحدة وهما «فاني ماي» (Fannie Mae)، و«فريدي ماك» (Freddie Mac) خسائر بالغة حتى أوشكا على الإفلاس ولم ينقذهما إلى تأميم الحكومة الأمريكية لهما.
كما ظهرت المقامرة جلية في هذه الأزمة من خلال المقامرات باسم المضاربات من خلال التجارة في المخاطر بالشراء بالهامش والبيع على المكشوف والمشتقات المالية على الأوراق المالية سواء أكانت تلك الأوراق خاصة بالديون العقارية أم غيرها.
وهكذا انفجرت الفقاعات الثلاث: الربا، وبيع الديون، والمقامرة، وتحولت الأزمة المالية إلى طاعون مالي يسري في جسد الاقتصاد العالمي؛ فأفقدت المستثمر الثقة في آليات النظام النقدي والمصرفي والمالي، ولم يعد يصدق جدوى تلك الآليات مثل آليات السياسات النقدية والائتمانية القائمة على سعر الفائدة والتخلي عن نظام الغطاء الذهبي، التي ساهمت في خلق أضعاف مضاعفة من النقود، وجعلت النقود تلد النقود، وكذلك الآليات المالية التي جعلت من الاستثمار المالي -الذي لا ينتج عنه قيمة مضافة- أضعافاً مضاعفة الاستثمار الحقيقي، ورسخت لمفهوم بيع الديون من خلال تحويل القروض إلى سندات مركبة، وكذلك تقنين المقامرة من خلال المشتقات المالية والتأمين التقليدي، حتى تحول الاقتصاد العالمي إلى نادٍ للقمار يتضاءل أمامه الإنتاج الحقيقي.
إن الربا ما هو إلا خلية سرطانية تحول بين المال وأداء وظيفته في الاقتصاد، والمرابين يبنون مشنقة الربا التي تحيط لا محالة برقبة المدين، وتجعل التنافس في الجري وراء النقود قاعدة الحياة في المجتمع، وتحول العلاقات الاجتماعية إلى نوع من الجميع ضد الجميع بفعل الربا الذي تحيط لعناته بالمجتمع.