في طابور طويل مُتراصّ في العراء، وقف وهو يحمل بين يديه طبقه الفارغ، حاله حال مَن حوله مِن الأطفال، كانت عيناه تتطلعان إلى هناك حيث الوعاء الكبير المملوء بالطعام المطبوخ الذي يُوزع على الواقفين، كلٌّ ينتظر دوره حتى يحصل على ملعقة منه أو ملعقتين يطير فؤاده بها فرحاً، فقد صار الحصول عليها أو على كسرة خبز يابسة أمراً صعباً في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها معهم.
كان يترقب أن يأتي دوره بفارغ الصبر، وكله أمل في الحصول على ما يسدّ جوعه ويمسك عليه حياته، خشي ألا يأتي دوره إلا وقد نفد رصيد صبره ونفد معه ما في الوعاء من طعام؛ فينصرف خالي الوفاض جائعاً خاوي البطن.
أمعن النظر في الطبق بين يديه، وحدثته نفسه أن يلقي به بعيداً تعززاً، واغرورقت عيناه بالدموع الحارة وهو يتذكر ما مضى من أيامه الخوالي وسِنِي عمره المعدودة التي كان ينعم فيها بالماء والطعام والمسكن والملبس والحضن الدافئ والأسرة الكبيرة، بل بالأمن والأمان في أحضان أهله، وتذكّر أياماً مضت لطالما أطعم فيها مثل هذا الطعام المنتظَر قطته الصغيرة التي كانت تلعب معه في حديقة داره الواسعة، وتقفز معه هنا وهناك في فرحة وحبور، وكيف كانت تناديه أمّه الحنون ليطعم ما لذّ من الطعام من لحم ودجاج وأرز ومرق وخضار وفاكهة، ثم هو يتدلل على ندائها ويتمنّع على طعامها فلا يأتيها إلا وقد نال منها الجهد كل منال؛ حتى يصل بها الحال أن تطعمه بيدها رحمة به وإشفاقاً عليه من لسعة الجوع.
سَرَى هذا الطيف أمامه في لمح البصر، وأفاق منه على منظر الديار المتهدمة من حوله، والخيام القليلة الضعيفة التي تحيط به، والأصوات التي تتعالى ممن حوله من الشيوخ والنساء والأطفال، جوعاً وألماً؛ فتنهد تنهيدة طويلة حبس معها أنفاسه فاختنق بالبكاء صارخاً في أعماقه.
اصطدمت دموعه بأرضية الطبق تاركة على سطحه ملوحتها التي قد يحتاجها لطعامه! ورسمت على صفحته لوحة مطموسة المعالم تَمَثَّلَ فيها خارطة طريقه التي تشبهها، إنها دموع نادرة كانت تستعصي عليه أن تنزل في أي وقت مضى، لكن ما بالها الآن لا يستطيع أن يحبسها حابس! فكل ما حوله يناديها ويستنزلها، وجميع مَن معه يتقوّون بها على شدة واقعهم المؤلم، حتى إنها أوشكت أن تنضب من كثرة ما ذُرِف منها! اختلطت الدموع في عينيه فلا أحد يدري هل هي دموع الحزن لحاله، أم أنها دموع الذل لله طلباً لنصرته واستجداءً لِعَونه، أم تراها دموع القهر وحرارة الظلم الذي لا يستطيع دفعه؟! حاول أن يمسك هذه الدموع وهو يمسك بيده طبقه.
إنه يملك رصيداً لا بأس به من الحزن في بنك قلبه، ومخزوناً فائضاً من الألم في أرض نفسه، وعدداً كبيراً من الآهات ذهب معها حلمه، تهُبّ عليه رياح الأمل بين حين وآخر فيستقبلها بنفس راضية وقلب متلهف، وكلما هبت عليه ظن معها الغيث ورأى فيها السُّقيا والفرج، لكنها سرعان ما تصدها ريح الظلم العاتية لتقتلع شجرة عائلته المثمرة وتطيح بجذورها القوية من أجداد وآباء وعمومة فتتركه وحيداً دون أدنى حرج.. لم تفرق بين ذكر وأنثى أو طفل وشيخ! ولم ترحم ضعيفاً لضعفه، ولا مريضاً لمرضه!
تطلع بنظره إلى ما حوله فتذكَّر حقه السليب وحريته المبتورة، ورأى بيته المهدَّم وأنقاضه المتناثرة هنا وهناك وقد اختلطت بأشلاء أحبابه وامتزجت بدمائهم؛ فأحس بحريق الغضب يزداد اشتعالاً في قلبه! لقد هدمت البيوت فوق رؤوس أهلها ودفنوا تحتها، ودُمرت المساجد بلا ورع ومُنع روّادها، وقُصفت المآذن دونما خجل وأخمِد صوتها، وشُوّه تاريخه الناصع وعُبث بحضارته العتيقة، وانتفض الباطل بصوته القبيح معلناً عن نفسه بكِبْر وصلافة وجبروت دون أن يردعه رادع أو يوقفه أحد.
رجع بذاكرته إلى الوراء وهو يحرك طبقه متململاً وقد أحس أنه كالسائل المسكين حين ينتظر الحسنة، وازدحم عقله من هول ما يرى من مشاهد، وجرت في عقله عملية مقارنة سريعة بين أمسه ويومه، وماضيه وحاضره، وبين الغد المأمول والمستقبل المجهول، فكاد الطبق أن يسقط من يده.
أصوات الجوع تنبعث من بطنه، تترجمها معدته الخاوية وهو ما زال بالطبق ممسكاً، وبعقله شارداً، يسأل في نفسه عن حقه وقد أخرج من تحت أنقاض بيته جريحاً وحيداً خائفاً يرتجف بلا أم تحتضنه، ولا أب يحميه، ولا أخ يشد من أزره، ومع كل ساعة تمر عليه وعلى الأطفال مثله يزداد الجميع فيها ألماً ويُتماً وحرماناً، وجوعاً وعطشاً ومرضاً، وخوفاً وتشرداً وتهجيراً، وإعاقة وقتلاً، بل إبادة وموتاً! حيث تُغتال طفولتهم بدناءة ووحشية، وتُفترس براءتهم بغلظة وقسوة، وتُلتَهم أحلامهم علانية وسراً! وإن هذه الخيمة المهترئة لتتحدث بذلك، وإن طبقه الفارغ ليؤكده! فأين حقوق الأطفال التي يملأ صداها الآفاق؟! أولستُ طفلاً؟! فأين حقي؟
إنني أتضوّر الآن جوعاً، وأرتعش برداً وأموت خوفاً، أقاسي الحياة بلا أمّ تضمني ولا أب يرعاني ولا أسرة أتعزز بها، هل حقي الضائع يتمثل في ملعقة من طعام أحصل عليها أزداد بها جوعاً، أو في خيمة مهترئة أقبع تحتها مقهوراً إلى أجَل غير مسمّى لا تقيني فيه يأساً ولا بأساً، أو في أرض ألجأ إليها أنتظر فيها ذبولي وموتي بعد أن انتُزِعْتُ انتزاعاً من جذري؟!
إنني لا أريد غير وطني ومدينتي.. أريد بيتي وحارتي.. ومدرستي وحديقتي.. أريد أن أنعم بحضن جدي وجدتي، وأمي وأبي، وأهلي وإخوتي.. وجيراني وصحبتي.
أريد أن أنام دافئاً، وأحيا آمناً، وأعيش سالماً، لا أريد طعاماً يسد رمقي تنتهي معه قضيتي، ولا أريد خيمة توأد بها فِكرتي، ولا أريد مكاناً تضيع فيه هويتي، ولا أريد عَيشاً تُسلَب معه حريتي.
أفاق من ذلك كله حين جاء دوره، فقد كان آخر مَن في الطابور، وها هو أخيراً يأخذ حصته من الطعام في طبقه، لكنه التفت فزعاً على صرخة أحد الأطفال يبكي على طعامه المفقود الذي وقع منه على الأرض فاختلط بترابها وطينها، وقد ازداد صراخه وعلا حين رأى وعاء الطعام الكبير فارغاً، فما كان إلا أن أعطاه طبقه وآثره به على نفسه، ومضى إلى المجهول!