أن تصمد أكثر من 100 يوم أمام جيش ضخم، مدجج بأفتك وأحدث أنواع الأسلحة، ومدعوماً من قوى عالمية، وأجهزة استخبارات فائقة المستوى، ومرتزقة أجانب، فأنت تسطر ملحمة أسطورية على مدار التاريخ.
وأن تصمد للشهر الرابع على التوالي، وأنت محاصر من الصديق قبل العدو، وجرى خذلانك من القريب قبل البعيد، وتكالب عليك الأعداء والخونة، فأنت تسجل بطولة خالدة على مرأى ومسمع من الجميع.
كنا في السابق، نقرأ في كتب السيرة عن صبر آل ياسر، وشجاعة عمر بن الخطاب، وإقدام علي بن أبي طالب، وذكاء خالد بن الوليد، واستبسال الزبير بن العوام، وصمود أبي عبيدة بن الجراح، وجهاد نسيبة بنت كعب، ورضا الخنساء تماضر بنت عمرو.
نقرأ كتب السيرة وهي تحتفي بحنظلة غسيل الملائكة الذي ترك عروسه وذهب للجهاد ملبياً فاستشهد في ميدان المعركة، والقعقاع بن عمرو الذي قيل عنه: إنه رجل بألف، ولا يهزم جيش يحارب فيه.
وهؤلاء الذين أرسلهم عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص مدداً لفتح مصر لما أبطأ عليه الفتح؛ قائلاً له في رسالته: إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف، فكان المدد الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد.
نماذج مضيئة وخالدة في تاريخ الإسلام، لكن الله أبى إلا أن يرينا نماذج أخرى من نور في عصرنا الحديث، وفي القرن الـ21، وهي تتلقف سير الصحابة والتابعين، وتسير على درب الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
نماذج من غزة الأبية، وفلسطين الحرة، كأنها قرآن يسير على وجه الأرض، وآيات من الصمود والثبات والرضا والشجاعة، ينشدون الشهادة في سبيل الله، ويقدمون دماءهم وأبناءهم وأحفادهم قرباناً للمولى عزو وجل، وأقصانا الأسير.
من كان يتوقع أن يرى في زماننا الشهيد الساجد تيسير أبو طعيمة وهو يسجد لله، وقد قصفته طائرة مسيرة، فرفع إصبعه بشهادة التوحيد، وأرخى جسده ليكون آخر عهده في الدنيا سجدة لله، والدماء تنزف من جسده النحيل؟!
هل من المعقول أن يفقد رجل زوجته وأبناءه وأحفاده، ويُدمر بيته، ويُسلب ماله، ثم نراه راضياً محتسباً، يردد مبتهلاً «الحمد لله، كله فدا فلسطين»؟!
كيف لامرأة أن تودع ابنها، أو زوجها، أو شقيقها، وهي تعلم أنها لن تراه مرة أخرى، ثم هي تزغرد فرحة باستشهاده، راضية بأمر الله، مشتاقة إلى لقاء الرحمن، لتضرب خنساء العصر الحديث المثل والقدوة في الصبر والصمود؟!
ما هذا الطفل الذي يبكي أخاه، ويطلب من أبيه أن يجنده من الغد في سرايا المقاومة لكي يأخذ الثأر، ويحرر الأرض والوطن والعرض والقدس، وكل شبر في فلسطين من النهر إلى البحر؟!
كيف لهذا الرجل العجوز والشيخ الطاعن في السن أن يقف أعلى الركام، ويردد: إن الأمة مريضة، وغزة دواؤها، محتسباً ما قدمه من أبناء وأحفاد من أجل «الأقصى»، بل ومتوعداً العدو بالخزي والهزيمة؟!
إنها ملحمة أشبه بـ«كورس» عملي في الصمود، ودورة تدريبية في التحدي، يلقنها الشعب الفلسطيني للشعوب العربية والإسلامية، بل لشعوب العالم، ليعلم الجميع أن الطائرات والصواريخ والقنابل لن تهزم إرادة إنسان، وإن الأرض لا ثمن لها سوى الدم، حتى تتطهر من دنس المحتل.
دعك من خبراء التنمية البشرية، وفلاسفة المنطق، وعلماء النفس، فما يحدث في غزة يتجاوز نظريات الواقع، وروايات الخيال، وكتب الأساطير، وأفلام «الأكشن» والرعب التي دأبت على تصديرها إلينا شاشات السينما الأمريكية والهندية.
هنا إنتاج حصري على أرض عربية مسلمة: مقاوم يفجر دبابة من مسافة الصفر، وآخر يحرق مركبة بـ«ولاعة» بدائية، وثالث يصطاد المسيرات كما يصطاد العصافير، وخلفهم رجال يقودون معركة من تحت الأرض، وكأنهم دولة عظمى في أنفاق غزة.
الحقيقة التي أصارح بها نفسي، وأصارحكم بها، إننا كنا نظن أن زمن الصحابة انتهى، وأن بطولات المجاهدين ولت، وأن آيات النصر غابت، لكن أهل غزة، وأبطال المقاومة، أيقظونا من غفلتنا وسبات نومنا العميق، ليقولوا لنا: لسنا من مادة الغثاء، لسنا غثاء كغثاء السيل، بل نحن جبال من الصمود، قمم من العزائم، طوفان من الإرادة.
أزعم، بل أجزم أنهم يستطيعون الصمود 100 يوم أخرى، بل ربما ألف يوم، لأنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، الواحد منهم بـ1000 رجل، زد على ذلك، ما يُمددهم الله به من نصر وفضل وثبات وصبر وملائكة مردفين.
نحن أمام آية من الصمود، يسطرها بشر مثلنا، على أرض الواقع، لكنهم من طينة أخرى لا تعرف الدعة والراحة ورغد العيش، أو الذل والاستكانة والانكسار، بل تعرف فقط لغة الجهاد، إما نصر أو استشهاد.