عرف العالم نماذج متباينة من المقاومة والتحرر من الاستعمار خلال القرن الماضي، وكان أشهرها ذيوعاً النموذج الهندي الذي غلب عليه طابع اللاعنف والنضال الاقتصادي، والنموذج الجزائري الذي جمع بين المقاومة الثقافية والمقاومة المسلحة، والنموذج الفيتنامي الذي غلب عليه المقاومة المسلحة، ومن خلالها ابتكر فكرة الأنفاق، ومؤخراً برز النموذج المقاوم في غزة، وهو يتمتع بسمات تجعله نموذجاً فريداً بين نماذج المقاومة.
وبصفة عامة يمكن القول: إن أي نموذج مقاوم ينبغي أن تتوفر فيه 4 عناصر أساسية، هي:
أولاً: امتلاكه منظومة فكرية وقيمية توجه سلوكه وتحكم تصرفاته ضمن إطار معين بحيث لا يتجاوزها وينساق إلى ممارسات لا أخلاقية كرد فعل على ممارسات العدو الوحشية.
ثانياً: امتلاكه رؤية شاملة لطبيعة الصراع بينه وبين العدو، وأن الصراع العسكري ليس إلا تجلياً واحداً من تجليات الصراع بين منظومتين لكل منهما منطلقاتها الفكرية والقيمية المغايرة عن الأخرى.
ثالثاً: امتلاكه «رؤية للعالم»؛ أي نموذج لما ينبغي أن يكون عليه شكل العالم في مرحلة ما بعد الصراع، وهذه الرؤية في الغالب مستمدة من العقيدة ومن التجربة التاريخية للجماعة المقاومة.
رابعاً: يستند إلى تجربة نضالية مباشرة متجذرة في الأرض.
وإذا ما نظرنا في نموذج غزة المقاوم، وجدنا أن هذه العناصر الأربعة تتوفر فيه، فهو نموذج يمتلك رؤية فكرية وعقدية ممتدة بشأن طبيعة الصراع، وسلوكياته وتصرفاته محكومة ضمن إطار أخلاقي معين، ولديه تصور لما ينبغي أن يكون عليه شكل الإقليم (العالم) وعلاقته أثناء الصراع وبعده، وأخيراً استناده إلى نموذج نضالي مشتبك فعلياً مع العدو من أجل تحرير الأرض.
وعلاوة على هذه العناصر الأساسية، يتميز نموذج المقاومة الغزاوي -والفلسطيني بصفة عامة- بخصائص وسمات مميزة تمنحه تفرداً بين نماذج المقاومة المعروفة، ولعل أهمها:
أولاً: الذاتية: ونعني بها الاعتماد على القدرة الذاتية لا المساعدات الخارجية، وهي خصيصة من أهم خصائص النموذج الغزاوي الذي يستند بالأساس إلى قدراته الذاتية في تصنيع الأسلحة والذخائر، وفي إعداد الخطط العسكرية بحيث تلائم طبيعة مدينة غزة وطوبوغرافيتها السهلية المنبسطة، وفي استخدام الطاقة الشمسية بديلاً للوقود الذي تعاني غزة نقصاً في توريداته، وفي هذه الجزئية تحديداً يفترق نموذج غزة؛ لأن نماذج المقاومة الأخرى حظيت ببعض الدعم الخارجي كالنموذج الفيتنامي الذي حظي بدعم الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، وحصل منها على الدعم العسكري والسياسي خلافاً لغزة التي تكاد تفتقر إلى الدعم الصريح والمباشر في هذين الميدانين.
ثانياً: الانفتاح على النماذج المشابهة: لا يعني التعويل على القدرات الذاتية الانكفاء على الذات وعدم الاطلاع على النماذج المشابهة، حيث درس المقاومون تجارب التحرير الوطني واستخلصوا ما يمكن الإفادة منه في حالة غزة، ونقلوه عنها، ومنها فكرة الأنفاق المستوحاة من النموذج الفيتنامي.
ثالثاً: استثمار الكفاءات العلمية: يميز المقاومة في غزة كذلك حسن الإفادة من الكفاءات العلمية وخصوصاً في المجال الهندسي، والانفتاح على الخبرات سواء في الداخل أو في الخارج، وقد برز في تاريخ المقاومة أسماء مثل المهندس يحيى عياش، ومحمد الزواري، مهندس طائرات «حماس» المسيرة، وغيرهما من الأسماء، ويستهدف العدو على الدوام ملاحقة وتصفية هذه الخبرات، إلا أن المقاومة تعمل على اجتذابها بصفة دائمة وتسعى إلى نقل خبراتها إلى الصفوف الوسطى والدنيا.
رابعاً: أصالة المكون العقدي والتاريخي: وهي سمة مميزة للمقاومة الفلسطينية التي ترى نفسها جزءاً من الجماعة المسلمة في مواجهتها لأهل الباطل، ويجد هذا المكون صداه في الإشارات والرموز الدينية التي تغلف هذا الصراع، وفي الشعارات التاريخية التي يطلقها المشيعون للشهداء، ومنها قولهم: «يا خالد يا ابن الوليد جبنا لك شهيد جديد»، في إشارة جلية إلى أصالة المكون العقدي في القتال الدائر في فلسطين.
خامساً: المزج بين الوطني والديني: حضور المكون الديني لا يعني غياب المكون الوطني في نموذج غزة المقاوم، فثمة امتزاج بين الرموز الدينية والرموز الوطنية؛ حيث نجد راية التوحيد جنباً إلى جنب مع العلم الفلسطيني ومع الكوفية التقليدية، وهذا الحضور يشير إلى أن الدين في عمومه لا يتعارض بالضرورة مع الخصوصية الوطنية.
سادساً: الاحتفاء بالشهداء: يحتفي الفلسطينيون عموماً بالشهداء على نحو يفوق نماذج المقاومة الأخرى، فهم يطلقون أسماء الشهداء على العمليات الفدائية، وعلى العتاد والأسلحة الحربية (قذيفة الياسين، مسيرة الزواري)، وعلى قنوات مواقع التواصل الاجتماعي مثل «تليجرام»، و«يوتيوب» وغيرهما، وهذا كله يؤشر إلى احتفائهم بالإنسان وتضحياته من جهة، وعلى تثمين فكرة الشهادة والعمل على بقائها حية في قلوب المجاهدين من جهة أخرى.
وبصفة عامة، يتشكل نموذج غزة المقاوم من مجموع هذه العناصر، فهو يجمع بين المحلية والانفتاح على النماذج الأخرى، ويقيم وشائج بين الدين والتقنية، ويمزج ما بين الوعي بالحاضر ومستجداته واستلهام التجربة التاريخية وتوظيفها في النضال، ولعل هذا ما يثير التساؤل حول قابلية هذا النموذج للانتشار والتعميم، داخل فلسطين وخارجها، وكيف يكون ذلك؟!
والمسألة الجوهرية ضمن هذا السياق هي الوعي أن نموذج غزة وإن كان يتعلق بمسألة التحرر الوطني من الاستعمار، إلا أن بعض جوانبه يمكن أن تفيد في مسائل وقضايا أخرى مثل قضية التحرر الاقتصادي من التبعية الأجنبية عبر بناء القدرات الذاتية، وقضية استعادة دور الأسرة في بناء الإنسان، وما إلى ذلك من قضايا تربوية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وعليه فإن هناك حاجة لدراسة نموذج غزة دراسة معمقة تستقصي كافة جوانبه ولا تقف عند الجوانب العسكرية والسياسية من أجل البحث عن عوامل تماسكه واستمراريته، والبحث عما يمكن الإفادة منه ويصلح للتعميم في المناطق والبلدان المجاورة.
ويبقى التعريف بالنموذج والإفادة منه رهناً بتسليط الضوء عليه عبر كافة الوسائل المتاحة سواء من خلال القنوات الإعلامية التلفزيونية أو وسائل التواصل الاجتماعي أو الصحافة أو الندوات والمؤتمرات العلمية، وضمن هذا السياق يمكن إعداد برامج تلفزيونية تعرف بالشهداء، وإطلاق أسمائهم على الشوارع والميادين في البلدان الإسلامية، وإعداد برامج تربوية تستلهم الخبرة الفلسطينية في تربية الأبناء على الجهاد وحب الشهادة، وما إلى ذلك من مقترحات.