«المسافة صفر»: تعبيرٌ شائعٌ يعني –على العموم- الاقتراب من الشخص أو الشيء المرصود ومن ثم استهدافه، وأُطلق اللفظ مؤخرًا على التكتيك الحربي الذي استخدمته قُوى المقاومة الفلسطينية في غزّة لمواجهة قوات الصهاينة، بالالتحام بها من مسافة قريبة جدًّا وصلت إلى حدّ صعود آلياتها لوضع عبوات متفجرة في بُرجها وإشعال فتيلها بهدوءٍ شديد، أو بالنزول تحتها وإعداد ما يلزم لتدميرها.. بل صارت «المسافة صفر» إستراتيجية المقاومة عند نصب الكمائن النوعية، وتفجير الأنفاق، وشنّ الهجمات، وصدّ توغل العدوّ.. وهي إستراتيجية بحاجة إلى البحث فيما وراءها؛ في أولئك الرجال الشجعان الذين جعلوها واقعًا يعيد إلى الأذهان مشاهد الأبطال التاريخيين وأجدادنا المجاهدين.
صورة من سيرة السلف الكريم
تعيد تلك المشاهد سيرة أبي بكر وعُمر والقعقاع والبراء وابن مقرَّن وابن أبي وقّاص وابن الوليد، الذي دُقَّ في يده يوم مؤتة تسعة أسياف، وقال لمّا احتضر: (لقد طلبتُ القتلَ في مظانّه، فلم يُقدّر لي إلّا أن أموت على فراشي، وما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلّا الله، من ليلةٍ بتُها وأنا متترس بفرسي والسماء تُهلّني، ننتظر الصبحَ حتى نغير على الكفار. ثم قال: إذا أنا متُّ فانظروا سلاحي وفرسي فاجعلوه عُدّة في سبيل الله)؛ فهؤلاء رجالٌ باعوا أنفسهم لله عربونًا للجنّة، يطلبون الموت كما يرجو عدوُّهم الحياة، فلا يهابون الأخطار، ولا يترددون، ولا يعرفون المستحيل، مستعينين بالله في كلّ خطواتهم، مؤمنين بقضائه وقدره، واثقين في عدله ورحمته، مهما اشتدت عليهم الوطأة، فهم ثابتون في الميدان ثبات جدِّهم «أنس بن النضر» الذي قال لإخوانه يوم أُحد: (ما يجلسكم –أي عن القتال- قالوا: قُتل رسول الله ﷺ، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله.. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل).
خياران لا ثالث لهما
تُظهر مشاهد «المسافة صفر» شجاعة رجل المقاومة، وجرأته وإقدامه على الموت، وفي ذهنه خياران لا ثالث لهما، كلاهما مأموله: النصر أو الشهادة، بل الموت أسمى أمانيه؛ وفاء لدينه وأرضه وعِرضه، فاسترخص الروح زودًا عنهما، فهو ثابتٌ في الميدان، مستبشرٌ بأيِّ الخيارين يلحق به، صابرٌ محتسبٌ، غير باحث عن شهرة أو ساعٍ إلى صيْت، فلا نعرف لأحدهم اسمًا سوى أنه: «مقاوم» أو«مجاهد»، بالتنكير، يسعى لمحو الذلّ والتخاذل عن أمته، لا ينتظر نُصرةً من أحد، مكتفيًا بما في يده من عُدة، وبما في قلبه من عقيدة، يفعل بها فعل الرجال، ويفرُّ بها من كل المطامع والغايات إلى غاية واحدة ومقصد واحد هو رضوان الله؛ من أجل ذلك فهو في رباط في النفق بعيد عن الأهل والخلّان، لم يضع السلاح، ولم يعلق قلبه بمال أو منفعة أو جاه، لا يدركه اليأس –بفضل الله- موقنًا بأن لكل جهد ثمرةً وإن طال الثمن؛ مصدِّقًا بقول الله تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30]، وهل هناك عملٌ أعظم من جهادٍ في سبيل الله وإعزاز لدينه؟
قوة نفسية عظيمة
صارت «المسافة صفر» بمثلثها الأحمر المتوهج، تعبيرًا عما قاله «المعرّي»: (هذي الحياة مسافةٌ فاصبر لها… كيما تبينَ وأنت غير ملوم)، فما عظمت تلك المسافة واشتُهر أمرها وذاع صيتها إلّا بعد جهاد وصبر، واحتمال وطول نفس، واختبار وابتلاء، وإخراج لحظّ الدنيا من القلوب، والتدريب الشاق على صناعة الموت الشريف لنيْل الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، ولفظ الوهن الذي لا يأتي إلّا ورفقته الخنوع والذلّ.. هي إذًا قوّة نفسية عظيمة تحتمل المكاره، وتصبر على المحن والشدائد، لا يعجز أصحابها شيءٌ أمام ما يبتغون: النصر أو الشهادة، يقولون: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22]، مستعلينَ بإيمانهم على عدوّهم رغم ألمهم؛ إذ يجمعون بين التوكل والإعداد، وهما عُدة النصرة والغلبة، فرغم الحصار المضروب وتربّص العدوّ الملعون، بنوا الأنفاق، ونبغوا في الإعلام، وأجادوا التعامل مع الإلكترونيات، وصنعوا المسدس والبندقية والرشاش، والقنابل والمتفجرات، والصواريخ والمسيّرات والطوربيدات، وفي جعبتهم الكثير والكثير، وهم بعد ذلك لا يخرجون بطرًا ولا كبرًا، ولا يريدون عُلوًّا في الأرض ولا فسادًا.
الطائفة المنصورة
«أبو عبيدة، الشهيد الساجد، العاروري، الدحدوح، كتيبة الشجاعية، جحر الديك، …..».. أسماءٌ وجملٌ لم يكن لأحدها شهرة قبل السابع من أكتوبر إلا قليلًا، ولو أنك قمت اليوم بالبحث عنها في «جوجل» لخرجت لك ملايين، بل ربما مليارات النتائج، فماذا حدث؟ إنه الإخلاص، وفضل القرآن على أهله، وعزّ الجهاد، والحب الحقيقي للأوطان بعيدًا عن الأغاني الهابطة والشعارات الزائفة، بل هو الإيمان والتوفيق والإحسان، بل إن شئت قلت: هؤلاء هم الطائفة المنصورة، بإذن الله، رفع الله ذكرهم، وأعلى شأنهم، وجمع لهم حب القريب والبعيد، أولئك القدوات، الذين أبلغوا الدنيا بأسرها، بلسان الحال والمقال، عظمة الإسلام ورحمة شريعته، وعدالة قضيته، ووضوح منهجه، وإباء أمته.. إنهم الفئةٌ القليلة التي فعلت ما لم تفعله العروش والجيوش لثلاثة أرباع القرن؛ قلوبٌ من حديد، وعقولٌ من ذهب، وسلوكٌ راق أساسه الوفاء، فلا يعرف أصحابُهُ غدرًا ولا تلوّنًا، ولا يُقادون برغبة ولا برهبة، ولا يخشون أحدًا إلّا الله.
سلاح جديد للمقاومة
تمثِّل «المسافة صفر» تحديًا لا نظير له من المقاومين لجيش الاحتلال اليهودي، ورفضًا للاستكانة التي صارت نهجًا عربيًّا رسميًّا، وتؤكد حجم الصمود أمام العدو الحاقد، والنقمة عليه لما يرتكبه من فظائع، وتمثل شدة وبأسًا كخصيصة لأتباع محمد ﷺ ورافعي لوائه، وحرصًا على ألّا تتكرر مأساة الأربعينيات مرّة أخرى.. بل هي سلاح جديد وأساس من أسلحة المقاومة التي تنكِّل بالصهاينة وتضعف همّتهم وتفقدهم الرغبة في البقاء في أرض الميعاد؛ ولكي يحسن الأبطال استخدام هذا السلاح فقد درسوا «سيكولوجية العدو»، وخبروا جبنه، وأدركوا أنه أحرص الناس على حياة، وأنه لا يحارب مواجهةً، ولا يعرف النزال ومعركة الرجل مقابل الرجل، فتجرؤوا عليه، واستهانوا به، وأنهوا أسطورته، وداسوا على كرامته؛ ما مثَّل صدمة لهذا العدوِّ، وبالمثل: مفاجأة لذوي القربى الذين يلبسون ثياب الخوف منذ ثلاثة أرباع القرن، مقتنعين بأن هذا العدو لا يُهزم؛ فإذا ثلة من المؤمنين الصادقين تمرمغ أنفه في الطين ومن «المسافة صفر».