مع انتهاء حرب أكتوبر المجيدة وتداعياتها في الشرق الأوسط وخاصة إرغام أنف «إسرائيل» كقوة لا تقهر، تنامى داخل العقلية الصهيونية وجوب نجاح التداخل العربي الصهيوني المشترك، ووضعت عبر خبراء في مجال التعاون السياسي والاقتصادي أسس تحقيق مشروعها الشامل للتطبيع العربي الصهيوني.
وفي ظل العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة، بمشاركة وتآمر القاصي والداني من تحالف أقطاب العالم الغربي، وأصدقائهم في المنطقة، بدا المشهد معقدًا؛ من قتل وأسر وتفجيرات ودمار وترحيل بلا هوادة في قطاع غزة، لكن برغم ما تكبده القطاع الفلسطيني من خسائر مروعة في البشر والبنية التحتية والفوقية، وتدمير شبه تام لموارد الحياة، فإن الاستطلاعات تظهر خسائر «إسرائيلية» كبيرة بسبب حربها على غزة في أعقاب «طوفان الأقصى» منذ أكتوبر الماضي؛ فقد سجل الاقتصاد «الإسرائيلي» في الربع الثالث من عام 2023م نموًا أبطأ، حسبما أظهرت بيانات مكتب الإحصاءات المركزي «الإسرائيلي»، بينما من المتوقع أن يتراجع النمو بشكل حاد في الربع الرابع في ظل استمرار الحرب.
وبحسب بنك «إسرائيل» المركزي، فإن الاقتصاد يشهد حالة اهتزاز في جميع القطاعات، ويتكبد تكاليف باهظة تبلغ 600 مليون دولار أسبوعياً؛ مما يشكل خطرًا على الاقتصاد، وبعد نمو بنسبة 6.5% في العام 2022م، يتوقع أن يتراجع الناتج المحلي لـ«إسرائيل» في كامل العام 2023م إلى نحو 2% فقط، وذلك جراء التأثير السلبي للحرب جزئيًا.
مشروع التطبيع الصهيوني
الحقيقة أن «إسرائيل» تمتلك رؤية متكاملة وأفقاً لمشروع إستراتيجية واضحة ومدروسة جيداً ومعقدة جداً منذ اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1978م، وفق آليات ثابتة للتعامل مع أفق التطبيع في المستقبل، وذلك من خلال الأهداف التالية:
– تأمل «إسرائيل» دخول منظومة الدفاع العربي المشترك.
– تأمل «إسرائيل» وترغب في وجود خط ملاحي عربي «إسرائيلي»
– تعمل على إقامة منطقة صناعية كبرى بين مصر و«إسرائيل» وتشمل بعض الدول العربية الأخرى.
– تسهيل انتقال بعض الصناعات التصديرية وخاصة الزراعية.
– صناعة جيل من رجال الأعمال يسهلون حركة التجارة العربية.
– مد خطوط الغاز داخل «إسرائيل».
نحن، إذًا، أمام فريق عمل يوزع عليه الأدوار والمناصب ويملك خبرة ودراية بالعالم العربي، لكنه خسر الرهان هذه المرة.
لقد أسقطت حرب غزة 2023م عددًا من الفرضيات الإستراتيجية «الإسرائيلية» والغربية:
– فرضية أنه يمكن احتواء حركات المقاومة من خلال عصا الحصار وجزرة تخفيفه ومنح 18 ألف إذن عمل لسكان القطاع.
– فرضية أن العرب يمكن أن يتقدموا بخطوات حقيقية تجاه التطبيع مع «إسرائيل» دون التقدم في حل القضية الفلسطينية.
– فرضية أن «إسرائيل» قوة لا يمكن قهرها، وأن تفوقها في التكنولوجيا العسكرية على كافة دول المنطقة يمكن أن يحمي أمنها بدون دفع ثمن السلام.
– فرضية أن الولايات المتحدة يمكنها سحب قدمها من الشرق الأوسط وتفويض حماية مصالحها لوكلائها في المنطقة.
ومن هنا، فإن الأهداف «الإسرائيلية» من العملية العسكرية على غزة أيضاً فشلت في:
– إنهاء وجود «حماس» والمقاومة في غزة.
– دفع كتل سكانية للنزوح خارج غزة.
– الانتقام واستعادة هيبة الكيان والخروج من الهزيمة النفسية.
هل ستبقى «إسرائيل» لمنتصف القرن؟
لقد لخص الكاتب اليهودي أوري وزولي الذي (رضع الديانة اليهودية من أمه) وتشبع بالفكرة الصهيونية من أبيه، ويدين بالولاء لكليهما ولقادة دولة «إسرائيل»، وكتب مؤلفاً في إهدائه عبارات تقول: «إلى أمي التي جعلتني يهودياً، وأبي الذي جعلني صهيونياً، وقادة دولة «إسرائيل»، على أمل أن يتجدد في القريب العاجل افتخار كل منا بالآخر»؛ ذلك أن هذا الكاتب اليهودي أوري وزولي الذي كان يشغل منصب رئيس تحرير أهم مجلة يهودية تصدر في بلجيكا لخص في كتابه «هل ستبقى إسرائيل، حتى عام 2048م»، ترجمة سميرة دميان، وأفرد قراءته لتاريخ الدولة الصهيونية من خلال ومعرفته بالتاريخ اليهودي الصهيوني، وكان ذلك بمناسبة احتفالات دولة «إسرائيل» بالعيد الخمسيني لهم.
مؤلف الكتاب لم تذهله الإنجازات والنجاحات الآنية التي تتوغل فيها دولة المحتل في الجسد الجغرافي العربي؛ لأنه يدرك، بل يرى السوس الذي ينخر في عظام هذا الكيان والعوامل التحتية التي تهدد كيانها بالفناء، ويتوقع انهيارها خلال هذه العقود الزمنية القريبة.
ومنهج وزولي في استقراء الواقع والتاريخ يتم من خلال رصد تصرفات حكام «إسرائيل»، ويستخلص الأحكام التي سوف تترتب عليها ويورد مثالًا لذلك: لو أنك رفعت يدك على كلب شرس بعد محاصرته في زاوية ضيقة، فإن مسألة التكهن بأنك معرض للعض منه، لا تستبعد!
ويقول أيضاً: إذا استقر 400 متطرف يهودي مسلحين بالقوة في قلب مدينة الخليل التي يقطنها 120 ألف عربي اشتهروا بالتزامهم الديني والعقدي، فلسنا في حاجة إلى علامة من السماء لتتوقع حدوث اشتباكات دامية بانتظام، وعلى هذا النحو يستمر المؤلف في تحليل أحكامه لتصرفات حكام وقادة «إسرائيل» وكأنه يرى أحداث اليوم، التي ستؤدي، كما يقول، إلى انهيار الحلم على أيدي صناع الحلم.
استعار المؤلف اليهودي -الذي يدرك ماذا سوف تثيره هذه الكتابات في نفسية القارئ «الإسرائيلي»- عنوان كتابه من المنشق الروسي أندريتي أملريك في عام 1970م، وكان يدور حول المصير المحتمل للاتحاد السوفييتي في المستقبل المنظور، عندما كان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية القطب الأعظم الثاني على مستوى العالم، وحيث توقع في مؤلفه ذاك أن حرباً ستنشب بين موسكو وبكين فيما بين عامي 1975 – 1980م، مما يستنزف قدرات الاتحاد السوفييتي ويؤدي إلى سقوطه، ونحن نستعرض هذا المؤلف، كانت رؤية المنشق الروسي سليمة تماماً من حيث الجوهر، ولكن بتأخير خمس سنوات تقريباً عندما بدأت روسيا تمضي إمبراطوريتها إلى الأفول في عام 1989م.
وهناك من يرى أن توقعات الكاتب اليهودي بزوال «إسرائيل» مرتبطة باستمرار الطرق التي تتبعها «إسرائيل» وقادتها خلال الخمسين عاماً القادمة بحذافيرها مع الطرق التي ناقشها في مؤلفه، وطبعاً لما سوف تقوم به سيتحدد مصيرها مع أي من التطورات المفصلة في ذلك المؤلف: إما باندماجها السلمي في المنطقة أو بزوالها من الوجود على المدى المتوسط أو البعيد.
اليهودي وزولي في نهاية مقدمته يؤكد أن فناء «إسرائيل» سيكون بمثابة أفدح كارثة للشعب اليهودي وللبشرية جمعاء، لأنه ختم الكتاب أيضًا بأن إستراتيجية السور الفولاذي أو القبة الحديدية من المحال أن تستمر بالقوة، ديمومة القوة لن تستمر لأن البقاء بالقوة دائماً ما ينتهي إلى طريق مسدود، وقوة «إسرائيل» لن تدوم ومعها ستسقط كل إستراتيجيات الصلح والتفاهم التي يريدها المطبعون والخونة وأصحاب المصالح والنفوذ.