تعبر الحضارة عن المرحلة السامية من حياة الأمة، وما اشتملت عليه من مظاهر الرقي والنهوض، التي تستوعب شؤون الحياة كلها، ونعني بالحضارة الإسلامية ذلك التقدم والازدهار الذي قام على البناء المتكامل للحياة، فشمل الروح والجسد، والدين والدنيا، والفرد والجماعة، والعلم والعمل، وغيرها من الركائز التي تنهض بالحياة الإنسانية في جوانبها المتعددة؛ إيمانياً وأخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
من هنا يتبين أن الإنسان هو الركن الركين والأصل المتين الذي يقوم عليه البناء الحضاري، ذلك أن التقدم الصناعي والاقتصادي والتكنولوجي لا يقدّم للبشرية نفعاً أو خيراً إلا إذا كان على يد إنسان صالح، يستطيع أن يوظف هذه الطاقات والإنجازات لصالح الناس، أما إذا كان الإنسان فاسداً أو عاجزاً، فإنه يضر أكثر مما ينفع، ويتخذ من المنجزات المادية وسيلة لتدمير البشرية.
ولهذا حرص الدين الإسلامي على تكوين الإنسان الصالح، الذي يقيم الحضارة ويوظفها لخدمة الناس أجمعين.
فما الدوافع التي أدت إلى اهتمام الحضارة الإسلامية بإعداد الدعاة؟
أولاً: اهتمام القرآن الكريم بإعداد الدعاة:
فقد ارتكزت الحضارة الإسلامية على القرآن الكريم، وانطلقت من توجيهاته نحو البناء والنماء، وإن الناظر في آيات القرآن يجد أنها شملت العديد من التصريحات والإشارات التي تدعو إلى إعداد الداعية وتكوينه، فالله تعالى حين أراد أن يكلف رسله بدعوة الناس إليه، جعل بلوغ الرشد أساساً لهذا التكليف، وهو نوع من الإعداد، فعندما أراد أن يرسل رسوله يوسف عليه السلام، قال تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (يوسف: 22)، وعندما أراد أن يرسل رسوله موسى عليه السلام، قال تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (القصص: 14)، كما عبّر الحق سبحانه وتعالى عن إعداد سيدنا موسى عليه السلام بقوله: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى {40} وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه).
النبي حرص على تربية المؤمنين على الإيمان السليم والعبادة الصحيحة والأخلاق الحسنة
وعندما أراد الله تعالى أن يمَكِّن للمستضعفين في الأرض، وأن يجعلهم أئمة فيها، أي قادة لها؛ بدأ ذلك بإعداد قائد هذه النهضة وتكوينه في مرحلة المهد، ثم الطفولة ثم الشباب ثم الرشد، وقد جاء ذلك مفصلاً في سورة «القصص»، حيث قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6} وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (القصص)، إنه الإعداد والتكوين للداعية القائد.
وقد تجلى هذا الإعداد أيضاً في القصص القرآني لدعوات الأنبياء والمؤمنين، ومرورها بفترات إعداد قوية، ثم الدعوة بعدها إلى الاعتبار والاقتداء بهم، فقد قال الله تعالى: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90)، وقال سبحانه: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (هود: 120)، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم تأثره بهذا الإعداد الإلهي للرسل، وذلك في قوله: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطاً، لقَدْ كانَ يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ»(1)، وقوله عن سيدنا موسى: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»(2)، وفي هذا إعداد لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الدعاة إلى الله تعالى.
ثانياً: حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إعداد الدعاة:
فقد بذل الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الجهد في إعداد الدعاة، حيث حرص على تربية المؤمنين به على الإيمان السليم والعبادة الصحيحة والأخلاق الحسنة، تم تعهدهم بالرعاية والعناية في أوقات الشدائد التي تسهم في البناء الإنساني ثم الحضاري، ومن الأمثلة على ذلك ما ثبت عن سيدنا خبَّاب بْنِ الأرتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ متوسِّد بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ ليتمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غنمه، ولكنكم تستعجلون»(3)، إنه يدعوهم إلى الثبات والصبر وترقب النصر.
وظلّ الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أتباعه ويرسلهم إلى الأماكن المختلفة، ليكونوا دعاة إلى الله فيها، فيرسلهم إلى القبائل المجاورة، وإلى الحبشة، وإلى يثرب، وإلى اليمن، ويرسم الطريق أمام هؤلاء الصحابة ويربيهم على مبادئ الدعوة وفنونها، فيقول لأبي موسى، ومعاذ بن جبل، حين أرسلهما إلى اليمن: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا»(4).
السبيل إلى النهضة بناء الدعاة الصادقين ونشرهم بالأرض لتقويم ما اعوجَّ من أحوال الناس
ولَمَّا أَرَادَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذاً إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟»، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللهِ؟»، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي كِتَابِ اللهِ؟»، قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَلَا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ»(5)، وهكذا استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبني جيلاً من الصحابة، كانوا قادة الأمة في فتوحاتها، وبناة حضارتها في كل مكان.
ثالثاً: حاجة الناس إلى الدعاة:
لقد فطنت الحضارة الإسلامية إلى ضرورة إعداد الدعاة، وذلك لحاجة الناس إليهم، في التوجيه والإرشاد، فإذا استطاع الجيش الإسلامي أن يفتح بلداً من البلدان؛ فإنه يحتاج إلى دعاة صادقين، يُعَرِّفون الناس بهذا الدين، ويجيبون عن أسئلتهم ويجتهدون في تلبية احتياجاتهم الروحية والمادية، فإذا وجد الناس من يدفعهم إلى الخير ويقودهم إليه؛ فإنهم يسلمون له قيادهم، حتى ينفرد بالتأثير فيهم والتوجيه لهم.
ولهذا، قال الشيخ محمد الغزالي: «إن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة، فالأمم العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال الموهوبين، وأثر الرجل العبقري فيمن حوله كأثر المطر في الأرض الموات، وأثر الشعاع في المكان المتألق، وكم من شعوب عاشت دهراً في قيود الهوان حتى قيض الله لها القائد الذي نفخ فيها من روحه ريح الحرية، فتحولت بعد ركود إلى إعصار، يجتاح الطغاة ويدك معاقلهم»(6).
من هنا يتضح أن السبيل إلى النهضة والحضارة بناء الدعاة الصادقين، ونشرهم في بقاع الأرض، لتقويم ما اعوج من أحوال الناس، وجمع شملهم، وتبصيرهم بما يحاك بهم وما ينبغي لهم تجاهه، حتى يتمكنوا من الهداية والصلاح والنصر والفلاح.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يجب على الأمة الإسلامية أن تعمل على إعداد الدعاة إلى الله تعالى، إعداداً يستوعب جميع شؤونها، ويلبي حاجاتها الروحية والمادية، ويخطط للرقي والنهوض بها، ويضع الوسائل العملية أمام أبنائها حتى يستطيعوا بعث حضارتها من جديد.
وفي هذا الإطار تأتي هذه السلسلة من المقالات، التي ترتكز منهجيتها على الكشف عن جوانب الإعداد الحضاري للدعاة، إيمانياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ومهارياً، ليكونوا قادرين على الانسجام مع الحالة التي تعيشها الأمة، ويُلَبُّون تطلعاتها وآمالها التي تسعى إليها، وقد زخر التاريخ الإسلامي بأسماء عديدة، تكونت في رحاب هذه الحضارة، وأثرت فيها أبلغ تأثير، مما يدعونا إلى الوقوف على تلك الظاهرة، من أجل الإفادة منها في العصر الحاضر، سائلين الله تعالى الإخلاص والسداد والتوفيق والرشاد.
_________________________
(1) صحيح البخاري (4694).
(2) صحيح مسلم (1062).
(3) صحيح البخاري (6544).
(4) متفق عليه.
(5) سنن أبي داود (3592).
(6) مع الله، دراسات في الدعوة والدعاة: الشيخ محمد الغزالي، ص 6.