وفقاً لأحدث الأرقام التي قدمها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يعيش حوالي 7.3 ملايين فلسطيني في الشتات، بدءاً من بعض الدول العربية، مروراً بالقارة العجوز، وصولاً إلى أمريكا وأستراليا، يحلم جلهم بالعودة إلى وطنهم، في الوقت الذي يلتهم فيه الاحتلال «الإسرائيلي» الأرض لإقامة المزيد من المستوطنات، ويعزل أكثر من 2.2 مليون فلسطيني في قطاع غزة.
كثير من هؤلاء الذين يعيشون في بلاد المهجر صنعوا إنجازات ضخمة في شتى المجالات، بعد أن تسلحوا بالعلم والمعرفة والخبرة الكافية التي أهلتهم للصمود أمام الأخطار، والتغلب على التحديات والصعوبات، وفي كل خطوة كانوا يخطونها كانت قضية فلسطين حاضرة في أذهانهم لا تغيب عنهم، مقدمين بمواقفهم وتحيزهم لوطنهم أروع الأمثلة في تغذية الأمل في نفوس أبناء فلسطين في بلاد المهجر بأن هناك فرصة سانحة، ولا شيء مستحيل، وضاربين أروع المثل في الصمود والتحدي رغم ما ذاقوه من مرارة التهجير القسري والتشريد والتضييق، حاملين في شخصياتهم كل تجليات الأرض المباركة التي تعاني منذ عقود.
فهذا المهندس الفلسطيني العبقري ابن قطاع غزة حاتم الصفدي، يحقق الريادة في مجال الهندسة المعمارية بألمانيا، ولم تمنعه حياة اليتم في غزة الأبية من التفوق والحصول على شهادة الهندسة المعمارية من جامعة برلين التقنية عام 1997م، ليشرع بعدها في تقديم تحف فنية تتميز بالفخامة والذوق العالي، حقق على إثرها شهرة عالمية، ونيل العديد من الشهادات والجوائز الدولية، ولعل من أهم مشروعاته ترميم الآثار التي تعود لعصر المملكة البروسية، بين القرنين الثامن عشر والعشرين.
كما تمثل قصة نجاح د. ثبات الخطيب، المتخصصة في علوم الأعصاب التطبيقية، نموذجاً متميزاً للعقول الفلسطينية التي نجحت نجاحاً لافتاً في الغرب، حيث تعمل باحثة في قسم علوم الأعصاب التطبيقية بكلية الطب في جامعة أبردين– بريطانيا، إحدى أقدم الجامعات البريطانية، وأكثرها شهرة، واستطاعت د. الخطيب أن تمضي بثبات عجيب نحو التميز في الأوساط الطبية العالمية، ونجحت في ابتكار علاج لمرض الزهايمر بعدما قضت الساعات تلو الساعات في المعامل والمختبرات، وها هي اليوم تجوب العالم وتشارك بأبحاثها وأفكارها في المؤتمرات الدولية مبرهنة على عبقرية الشخصية الفلسطينية التي لا تؤمن بالمستحيل، بل تؤمن إيماناً كاملاً بنفسها وقدراتها، ولا تستسلم مهما واجهت من صعوبات.
كذلك من الشخصيات الفلسطينية المبهرة شخصية أصغر طبيبة في العالم؛ د. إقبال الأسعد، التي التحقت بكلية «وايل كرونيل» لدراسة الطب بقطر قبل أن يتجاوز عمرها الـ13 عامًا، دخلت موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية، بعد تخرجها في كلية الطب، لتحصد بذلك رقماً قياسياً عالمياً ثانياً بعد نيلها لقب أصغر طالبة جامعية.
كما تمثل تجربة الراحل د. علي نايفة، الملقب بـ«أينشتاين العرب»، نموذجاً واضحاً على ما تتحلى به الشخصية الفلسطينية من مثابرة وطموح وعزيمة، فالرجل نشأ في ظروف عائلية صعبة، لكنه أكمل دراسته وعمل مدرساً بمدارس فلسطين والأردن، ثم استكمل تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية وتخصص في الهندسة الميكانيكية، وأصبح واحداً من المهندسين العالميين الذين تركوا بصمة واضحة في مجالات تخصصاتهم، حيث سجل الرجل العديد من براءات الاختراع التي كان لها صدى واسع في مختلف المجالات الحياتية.
ولم يحرم نايفة وطنه العربي من علمه وخبراته، فقد أسس جامعة اليرموك بالأردن، وتطوع للعمل بها، وأسس كلية الهندسة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وأنشأ البرامج المتعلقة بتخصص الهندسة الميكانيكية في جامعات إسلامية وعربية شتى، كما طور جهازاً للكشف الفوري عن بعض أنواع البكتيريا في السوائل والهواء؛ الأمر الذي ساهم في الاستغناء عن الفحوصات المخبرية، وقد أفاد هذا الجهاز ملايين المرضى في البلدان التي تنتشر بها بكتريا «إيبولا»؛ ما جعله يستحق عن جدارة جائزة بنجامين فرانكلين التقديرية، أرفع جائزة عالمية في مجال الهندسة الميكانيكية.
كذلك من العلماء الفلسطينيين الذين أبدعوا في المهجر عدنان مجلي الذي أسس شركة بالولايات المتحدة الأمريكية، ونجحت في توفير علاجات لأمراض مستعصية، علاوة على علاجات مبتكرة لمرض السكري والزهايمر.
وهذه د. ناديا الحاج ياسين، العالمة في مجال التغذية الجزيئية بأكبر جامعات النرويج، وهذه د. منى الدزدار التي تعد أول وزيرة من أصل فلسطيني في حكومة النمسا، ونجحت في تسليط الضوء حول القضية الفلسطينية فضلاً عن قضايا التهجير بشكل عام.
وعلى صعيد مجال المال والأعمال، هناك أسماء فلسطينية لامعة نجحت نجاحاً لافتاً لعل من أبرزهم رجل الأعمال طلال أبو غزالة، المؤسس والرئيس لمجموعة طلال أبو غزالة الدولية، المتخصصة في مجالات المحاسبة والخدمات المالية والإدارية وتقنية المعلومات والملكية الفكرية التي تنتشر فروعها في كثير من دول العالم، وعلى ما فيه الرجل من ثراء ومكانة دولية مرموقة، فإنه لم تشغله تجارته وشركاته عن قضيته الأم؛ قضية فلسطين، فهو حريص كلما سنحت له الفرصة في الظهور الإعلامي على التنديد بالاحتلال «الإسرائيلي»، والتأكيد على حتمية زوال «إسرائيل»، وسواء اتفقنا مع الرجل أو اختلفنا، إلا أن له مواقف كثيرة تدعم أبناء شعبه وتعزز صمودهم وثباتهم على أرضهم.
وهناك رجل الأعمال الفلسطيني نائل طوقان الذي يمتلك واحدة من أكبر شركات الدعاية والإعلان ليس في السويد وحدها بل في شمال أوروبا، وتتعاون شركته مع أكبر الشركات العالمية، وعلى المستوى الشخصي يعد الرجل كبير المترجمين العرب في مصلحة الهجرة بحكومة السويد، وكان قد أنشأ قاموساً باللغة العربية أطلق عليه «التحفة الوردية في اللغة السويدية»، مؤكداً من خلال هذا العمل حبه للغة العربية واعتزازه بهويته.
إن قصص النجاح لفلسطيني المهجر كثيرة ولا يمكن حصرها في المجالات الاقتصادية والعلمية والطبية والرياضية، وحينما نتكلم عن قصص النجاح، لا نقصد بالطبع النجاح الذي ينعكس على صاحبه ولا يتعداه لوطنه وقضيته الأم، غير أنه بالاستقراء والبحث تبين أن هناك أعداداً هائلة من الذين هجروا من فلسطين بفعل الاحتلال لم تبعدهم مشاغلهم ومساراتهم عن قضيتهم بقدر ما تحولت هجرتهم إلى فعل نضالي دؤوب، مؤكدين بحراكهم ومساراتهم على حقوق الشعب الفلسطيني وطرحها أمام ضمير العالم.