بين الميلاد والاستشهاد
كان الميلاد عام 1906م، وكان الاستشهاد عام 1949م، فكان العمر 43 عاماً، حافلة بالبذل والعطاء، والإنجازات العظيمة، والمواقف الكبيرة، التي ما فتئ فم الزمان يردد مآثرها، التي ملأت قلوب الشانئين غيضاً وغضباً، ونفوسهم ألماً وحسرة، وقلوب المؤمنين رضاً وطمأنينة، ونفوسهم تصميماً وإرادة، وعقولهم نوراً.
فكان للشانئين كابوساً مزعجاً، بل زلزالاً هداراً، يهدد آمالهم، ويحطم أطماعهم.
وكان للمؤمنين ملاذاً، وللشباب منهم أملاً، وللمتحمسين المجاهدين مثلاً.
العُمر.. بالإنجازات والمواقف
جاءت هذه الإنجازات مؤكدة أن العمر لا يحسب بعدد السنوات، أو بكثرة الثروات، أو بعدد الأولاد، أو المناصب التي يتقلدها صاحبه، وإنما يحسب بالمواقف التي يسجلها، وبالميتة التي يختارها، أو بالأحرى الميتة التي يصنعها، ولقد حقق الإمام ما حقق لأنه كان يؤمن أن الموت صناعة، نعم صناعة الموت، التي أتقنها حقاً، وقال فيها: «أجل الموت صناعة من الصناعات، من الناس من يحسنها، فيتعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف، والوقت المناسب، فيبيع القطرة من دمه بأغلى أثمانه، ويربح بها ربحاً أعظم من كل ما يتصور الناس، فيربح سعادة الحياة، وثواب الآخرة، ولم تنقص من عمره ذرة، ولم يفقد من حياته يوماً واحداً، ولم يستعجل بذلك أجلاً قد حدده الله.
ومن الناس جبناء أذلة جهلوا سر هذه الصناعة، وغفلوا عن مزاياها، وفضائلها، فمات كل واحد منهم في اليوم الواحد ألف موتة ذليلة، وبقي وموتاته هذه حتى وافته الموتة الكبرى ذليلة كذلك، لا كرم معها ولا نبل فيها، في ميدان خامل حسيس، ضاع وقضى ولا ثمن له، وأهدر دمه ولا كرامة».
إن الثلاث والأربعين في عدد السنوات رقم قليل، وقليل جداً، لكنه يكثر ويعظم بالعمل المتواصل، والجهد المستمر، ولعل هذه السنوات التي عاشها الإمام رحمه الله تعكس الجهد الكبير، والعمل الشاق المضني الذي كان يبذله.. فكيف كان الإمام في يومه وليله، في صباه وشبابه، في عمله وعلمه، في خلقه ومعاملاته، في حله وترحاله، وفي كل شأن من شؤون حياته؟ كيف كان في ذلك كله؟
فكــــيف كـــــان؟!
سؤال كبير سنحاول أن نجيب عنه بمحطات دعوية، ووقفات خلقية، وصفات علية، ومواهب متميزة، عرف بها الرجل، ولمسها كل من عامله، أو تعرف به، أو حتى رآه ساكتاً أو متحدثاً.
وسنجعل حديثنا عن الإمام في الإجابة عن هذا التساؤل على شكل محطات، تشكل كل واحدة منها قاعدة ذهبية وأساسية من القواعد التي أهلت الرجل أن يؤسس بناءً قوياً متماسكاً، تكسرت على صخوره العظيمة النصال، وما زادته الابتلاءات والمحن التي تعرض لها إلا عزماً ومضاءً، شهدت به الأعداء.
المحطة الأولى: كان لا يجهده السهر.. ولا يتعبه السفر:
ولقد ظهر هذا واضحاً جلياً، في كثرة جولاته ورحلاته التي كان يقوم بها، والتي يزور خلالها محافظات القطر، منتقلاً من أقصاه إلى أقصاه، بين مدنه وقراه، لم يدع وسيلة في ذلك إلا واستخدمها، من السيارة إلى القطار، ومن المشي على الأقدام، والركوب على الدواب إلى استخدام المراكب.. لم يكن ينام إلا مضطراً، فإن نام فالقليل منه يكفي..
يحدثنا تلميذه الأستاذ سعيد رمضان، الذي كان له شرف الصحبة والمرافقة عن كثرة سهره وسفره.. بقوله: «ولن أنسى جولاته في الأقاليم، لا ينام إلا ساعتين أو ثلاثاً في اليوم والليلة.. ولن أنسى سهره الليل عاكفاً على شؤون الدعوة في المركز العام، أو في دار مجلة الشهاب، أو في دار الجريدة اليومية، أو في دار شركة المعاملات الإسلامية، أو في بيته الذي لا يكاد يظفر به لزوجته وأولاده أيماً متوالية.. وإن أنسى لا أنسى رحلة مديريتي الشرقية والدقهلية التي سعدت فيها بصحبته.. كان يزور في اليوم الواحد أكثر من حمس قرى، يخطب فيها جميعاً، ثم تكون حفلة المساء في إحدى المدن، حيث تحتشد الآلاف لتصيخ السمع إلى الصوت المكهرب، والروح الغامر، والفكر المشرق.. إلى حسن البنا، ساعتين أو ثلاثاً.. واستمر البرنامج هكذا أكثر من أسبوعين..».
ولعلك أدركت طرفاً من أسرار هذه المحطة التي نرى أهميتها وضرورتها في نجاح الداعية، لا سيما في الوقت، الذي رأينا فيه صنفاً من الدعاة الذين لا يجهدهم السهر في الزيارات والمجاملات، أو في متابعة القنوات والفضائيات.. والذين لا يتعبهم السفر في الرحلات الاستجمامية، وقد تعددت المأكولات وتنوعت المشروبات، وغص البرنامج بالزيارات، والأماكن الخلابة، والفنادق ذات النجوم!