نعم إنه المجهول، عام يتلوه عام وأنت تعيش في الغربة، تمضي الأيام ويبقى قلبك وعقلك حاضراً في وطنك الأم، تتابع أخباره وتستمتع لتفاصيله، وتعتبر أن وجودك في المهجر فترة عارضة ولا بد حتماً من العودة، وفجأة.. تكتشف أن السنوات قد مرت وأنت لا تعرف الكثير عن مجتمعك الجديد، فيزداد انعزالك عن الواقع بأحداثه اليومية، وتبقى بعيداً عن التفاعل مع عاداته وثقافته وفنونه.
إذا أردت أن تجد حلاً لهذه المعضلة في صفحات السيرة النبوية، وتتعرف على تجربة مماثلة لما تعيشه الآن، فليس هناك أفضل من الغوص في ثنايا هجرة الحبشة، لنعرف كيف واجه المسلمون التحديات والعقبات التي ظهرت منذ اليوم الأول لوصولهم، وكيف استمرت حياتهم في الحبشة لما يزيد على خمسة عشر عاماً من التعايش في المجتمع الجديد.
أولى المشكلات التي تواجه كل من يبدأ حياته في الغربة هي لقمة العيش، كيف يمكن أن تجد فرصة عمل في مجتمع جديد؟ ولك أن تتخيل حجم التحدي الذي واجهه المسلمون في الحبشة لضمان قوت يومهم، فهم في بلد بعيد لا يفهمون ثقافته، لا يتحدثون لغة أهله، بل حتى تختلف ديانتهم ومعتقداتهم عن أهل الحبشة، وبالرغم من ذلك سارع الصحابة إلى مواجهة الحياة الجديدة والبحث عن مكان فيها.
ولعل المثال الأبرز حكاية الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود بعد هجرته للحبشة التي يرويها بنفسه، حين بحث عن السوق في الحبشة وانطلق وحده وأخذ ما معه، فقال له صاحب منزله: أراك تنطلق وحدك، وإني أحذرك رجلاً بلغ من شره لا يلقى غريباً إلا ضربه أو قتله وأخذ ما معه، ثم وصف لي الرجل، فلما جئت السوق عرفته فجعلت أستخفي منه بالناس، لا يأخذ طريقاً إلا أخذت غيره، حتى بعت ما معي بدينارين، ثم غفلت فلم أشعر إلا وهو قائم على رأسي قد أخذ بيدي، فجعل يسألني ما معك؟ قلت له: أعطك ما معي وخلِّ سبيلي، قال: وكم معك؟ قلت له: ديناران، قال: زدني، قلت: ما بعت إلا بهما، قال: زدني، فبينما هو إذ بصر به رجلان كالتلّ فانحطا نحوه، فلما رآهما خلى سبيلي وهرب، فجعلت أناديه هاك الدينارين، فقال: لا حاجة لي فيهما، ورجعت إلى أصحابي بسلام.
ثاني العوائق التي تواجهك هي مسألة اللغة، ولا سيما إذا كان بلد المهجر يتحدث بلغة أخرى، وهنا يكون أمامك طريقان؛ فإما أن تتخذ الطريق الأسهل وتحصر نفسك في دائرة ضيقة ممن يتحدثون لغتك فتنعزل عن المجتمع، أو أن تبدأ الطريق الأصعب فتتعلم لغة المهجر، حتى تصل بمرور الوقت إلى درجة الإجادة، فتتمكن من التفاعل معه والتأثير فيه، وهو ما حدث مع جيل الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة.
فبالرغم من علمهم أن هجرتهم مؤقتة -ولا سيما بعد وصول الأخبار أن الدولة الإسلامية الوليدة قد نشأت في المدينة المنورة- فإن الصحابة عاشوا الحياة بكل تفاصيلها في المجتمع الحبشي، وتعلموا اللغة الحبشية حتى أجادوها بشكل كامل، وليس أدل على ذلك مما ورد في «دلائل النبوة» للبيهقي أن أسماء بنت عميس، زوجة الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب، نقلت الكثير من المفردات والتراكيب اللغوية الحبشية معها إلى المدينة، حتى سماها بعض الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب بالحبشية.
بل إن الصحابية المهاجرة أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص أجادت اللغة الحبشية لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاريها في الحديث بما يعرف من مفردات أهل الحبشة، وذلك عندما أتى النبي عليه الصلاة والسلام بثياب وقال: «من ترون أكسوا هذه؟»، فسكتوا، فقال: «ائتوني بأم خالد»، فألبسها بيده وقال: «أبلي وأخلقي»، وجعل ينظر إلى لون الثياب الأصفر والأحمر ويشير بإصبعه ويقول: «هذا سنا يا أم خالد»؛ وكلمة السنا باللغة الحبشية تعني الحسن.
التحدي التالي الذي يواجه المهاجر هو قدرته على التفاعل مع المجتمع والتأثير فيه ولا سيما من الناحية السياسية، فالكثير من المسلمين يعيشون في عزلة شعورية عن الواقع السياسي لبلد المهجر، ولا يمتلكون الحماس الكافي للمشاركة في انتخاباته أو أحداثه السياسية، فضلاً عن امتلاك التأثير والوصول إلى مراكز صنع القرار، وهم في ذلك يغفلون التجربة الثرية للصحابة في الحبشة.
فبعدما وصل وفد قريش الذي يطلب ترحيل اللاجئين أتيحت فرصة ذهبية استغلها المسلمون للقاء الملك، ومن هنا بدأت رحلة طويلة من توطيد العلاقة بين المسلمين ورأس النظام السياسي -الذي ما زال يعتنق الديانة المسيحية- كان جعفر بن أبي طالب يتردد على قصر النجاشي باستمرار ويجلس معه فترات طويلة، وبلغت متانة العلاقة بينهما أن ترضع نساء المسلمين أولاد الملك، وقد روى ابن حجر أنه ولد للنجاشي ولد فسماه عبدالله، وأرضعته أسماء (زوج جعفر) حتى فطمته.
بل إن علاقة المودة وصلت أن يكون النجاشي هو من يتوسط في زواج الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب للنجاشي مع عمرو بن أمية الضمري، يطلب منه أن يزوّجه بأم حبيبة بعد موت زوجها بالحبشة.
وبلغ تأثير المسلمين ذروته بإقناع النجاشي أن يتحول عن المسيحية ليدخل الدين الإسلامي، وقد ورد في إحدى الروايات أن النجاشي حين ودع آخر أفواج المسلمين العائدة إلى المدينة قال لجعفر: خبّر صاحبك بما صنعت إليكم، وأن أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له: يستغفر لي، فلما وصل جعفر ومن معه المدينة استبشر بهم الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: «اللهم اغفر للنجاشي» (ثلاث مرات)، فقال المسلمون: آمين.
تعايش المسلمون مع مجريات الحياة والأحداث السياسية اليومية في الحبشة، وليس أدل على ذلك من تفاعلهم مع محاولاتي الانقلاب على النجاشي -التي سيرد ذكرها بالتفصيل في المقالات القادمة- ولكن يحضرنا هنا ما حصل في محاولة الانقلاب الأولى، ولم يكن النجاشي قد أعلن إسلامه بعد.
وبالرغم من ذلك، فقد كان موقف المسلمين في منتهى الإيجابية، وأظهروا دعمهم بوضوح لحزب النجاشي الذي ينادي بالعدل والحرية، وتروي السيدة أم سلمة أنهم رفعوا أيديهم بالدعاء للنجاشي أن ينصره الله على عدوه، وأن يمكّن له في بلاده، تابع المسلمون الأحداث عن قرب فأعدوا العدة للزبير بن العوام حتى يتمكن من عبور النيل سباحة ليعاين ملتقى القوم ولم يغمض للمسلمين جفن إلا بعد وصول الزبير وهو يتقافز فرحاً ويليح بردائه ويقول: أبشروا فقد أظهر الله النجاشي.
لم يستسلم الصحابة للتحديات التي واجهتهم في الحبشة، بل قدموا النموذج الأمثل لكيفية التعايش والانفتاح، سواء في تعلم اللغة وإيجاد فرص العمل أو حتى التفاعل السياسي مع مجتمعهم الجديد، وهي إشارة مهمة لكل من حملته الأقدار الي الإقامة في بلد المهجر.. احمل رسالتك واصنع تأثيراً في أي مكان تحيا فيه، فلتعش بقلبك وعقلك مع مجتمعك الجديد ولا تعتبر ذلك خيانة لوطنك الأم.