نصل إلى الختام أو الحصاد المر الذي حصدته الأمة نتيجة موقفها من القرآن، وإهماله وإقالته من واقعها الاجتماعي المعيش.
لقد وقعت الأمة الإسلامية في جريان السنن الكونية والاجتماعية، فتخلت عن شروط خيريتها بتخليها عن القرآن، وإقالته من واقعها الاجتماعي والعملي، وبعد أن تجسد فيها الحمل الاستحماري لهذا الكتاب الكريم والذكر العظيم، كما في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة: 5)، فلم تعد تفيد بالقرآن، ولم يعد لها نصيب منه إلا الحرف والرسم والصوت، وفقدت أمانته، وأمانة البلاغ به، وأمانة الاحتكام إليه، ومآل العزة به، والاهتداء إلى ما يهدي من خيريَّ الدنيا والآخرة، يقول الطبري تعليقًا على هذه الآية: جعل الله مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يتبع ما فيه، كمثل الحمار يحمل كتاب الله الثقيل، لا يدري ما فيه.
إن الجزاء السنني حدده الله تعالى حيث يقرر القرآن هذه السُّنَّة المنظومية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، وصنو هذه الآية أيضًا (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الأنفال: 53)، إن هاتين الآيتين توضحان قواعد حركة التغيير الكبرى التي تحدث في التاريخ والحضارات والأمم، فالإنسان هو محرك التاريخ وكذلك هو عامل الصعود والهبوط للأمم والحضارات.
إن استبدال الشروط يتطلب استبدال المكانة؛ (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) (محمد: 38)؛ أي إن التولي عن شروط خيرية الأمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر (المعروف الحضاري والمنكر الحضاري) الذي مصدره ومرجعه الأساس القرآن الحكيم، فإنه يتبعه بالضرورة الاستبدال عن المكانة أي عن الخيرية، فإن الخيرية ليست مجعولة ولكنها تتعلق بشروط مكتسبة ومحصلة في الواقع الاجتماعي.
يذكر القرطبي في تعليقه على آية سورة «محمد» قوله: (وَإِن تَتَوَلَّوْا) أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فترتدوا راجعين عنه؛ يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلًا منكم، ويحدد أوصاف هؤلاء القوم الآخرين وهي كالتالي:
1- يصدقون به (بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن).
2- ويعملون بشريعته.
3- ثم لا يبخلون بما أمروا به من النفقة في سبيل الله تعالى.
4- ولا يضيعون شيئًا من حدود دينهم.
5- ويقومون بما يؤمرون به كله.
إن سُنة الاستبدال ركنها الركين هو التَّوَلَّي؛ أي إعراض الأمة عما أمرت به، ودخل ضمن وظيفتها وشروط خيريتها الجامعة وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في معناهما القرآني الواسع؛ أي المعنى الحضاري والاجتماعي الذي يجعل هذه الأمة مصدر لخيرية العالم والإنسان، وتفعيل هذه الشروط في حركتها وسيرها العمراني، وإن التخلي عن القيام بالأمر والنهي وغياب فعالية الإيمان في واقع الأمة هو عين التولي وترك الإصغاء والائتمار؛ ومن ثم يكون التولي مغايراً للانقياد لأحكام الله تعالى والاستسلام لها الذي هو عين الإيمان وعين الإسلام، والذي تتحقق من خلاله –أي الانقياد والاستسلام لأحكام الله تعالى- خيرية هذه الأمة والتمكين لها في الزمان والمكان.
هل توافرت شروط الاستبدال في الأمة؟
وردت مشتقات الجذر «ولي» حوالي 80 مرة تقريبًا في القرآن بحسب التتبع المعجمي، كان من بينها 64 موضوعًا تشير إلى عوامل الاستبدال -للأمم والأقوام والنظم والمكانة والقوة والمنعة- وتوضح أركان التولي (فعل الشرط) لحالة الاستبدال (جواب الشرط)، وقد حاولنا تصنيف هذه الأبعاد النزوعية والمظاهر السلوكية ومآلاتها تصنيفًا مبدئيًا نشير فيه إلى البُعد/المظهر الخاص بأشكال «التولي» ومواضعها في القرآن كما يأتي:
1- «الإعراض عن»: وجاء هذا المظهر في 22 موضوعًا قرآنيًا موزعًا حسب نزوعات الإعراض ودوافعه أما موضوعات هذا الإعراض فهي كما يأتي:
– الإعراض عن الالتزام بعهد الله ومواثيقه: (البقرة: 64).
– الإعراض عن القيم الإلهية: (البقرة: 83).
– الإعراض عن الإيمان والهدى: (البقرة: 177)، (هود: 52).
– الإعراض عن الإسلام وتعاليمه: (آل عمران: 20)، (آل عمران: 23)، (آل عمران: 32)، (آل عمران: 64)، (هود: 57)، (هود: 3)، (النحل: 82)، (يونس: 72)، (المعارج: 17)، (الأنبياء: 109)، (النجم: 33)، (التغابن: 12).
– الإعراض عن سماع كلام الله: (الأنفال: 23)، (الأنفال: 40).
– رفض البراءة من المشركين: (التوبة: 3).
– الإعراض عن الاستجابة إلى التوبة: (التوبة: 74).
– الإعراض عن ذكر الله: (النجم: 29).
– الإعراض عن الآخرة: (الممتحنة: 6).
2- موافقة الهوى وطاعة الشيطان: (المائدة: 43)، (النحل: 100)، (الحج: 4).
3- التكذيب بالآيات والسنن: (طه: 48)، (القيامة: 32)، (الغاشية: 23)، (الليل: 16)، (العلق: 13).
4-التخلف عن الجهاد/الفرار من الزحف: (البقرة: 246)، (آل عمران: 155)، (الأنفال: 15)، (الفتح: 16).
5- التخلي عن نصرة المسلمين في عثرتهم: (التوبة: 50)، (التوبة: 129).
6- التوجه إلى الانحلال الأخلاقي: (آل عمران: 82)، (المائدة: 49).
7- الانصراف إلى الإفساد في الأرض: (البقرة: 205)، (آل عمران: 63)، (محمد: 22).
8- مخالفة الله ورسوله: (المائدة: 92)، (الأنفال: 20)، (النور: 47)، (الصافات: 40)، (الفتح: 17)، (النساء: 115).
9- موالاة الباطل وأعداء الإسلام والمنافقين: (النساء: 89)، (المائدة: 80)، (التوبة: 23)، (المجادلة: 14)، (الممتحنة: 9)، (الممتحنة: 13).
10- التهرب من الإنفاق في سبيل الله: (محمد: 38).
11- الانصراف إلى جمع الكيد للمؤمنين: (طه: 60).
12- عظم الإثم: (النور: 11).
13- محاولة الهروب من عقاب الله: (الصافات: 178).
14- الانصراف إلى ملذات الدنيا وشهواتها: (النجم: 29).
15- دعوة الناس إلى غمط حقوق الناس: (الحديد: 24).
جاء استبدال الأمم السابقة عن طريق هلاكها، كما في أقوام: ثمود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكان ذلك الهلاك بصورة مباشر من الله تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 39)، وشكل آخر للاستبدال هو نقل العزة والغلبة من أمة إلى أمة؛ (غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (الروم).
ثم كان نقل راية القيادة للبشرية لبني إسرائيل (مؤقتة) على يد سيدنا موسى؛ (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (القصص)، وهذه سُنة التمكين الوجه المقابل لسنة الاستبدال، فما كان هناك استبدال لقوم إلا ويلازمه تمكين لقوم آخرين -وكل بشروطه وقوانينه- حتى استحقوا الاستبدال بما فعلوه في نشر المنكر وتحريف شريعة الله ومخالفة عهوده ومواثيقه فاستحقوا الاستبدال.
ثم تسلم المسلمون هذه الراية باعتبارهم الأمة الخاتمة والشاهدة والوسط على الأمم السابقة والحاضرة، ومنح الله هذه الأمة خيريتها بشروطها، وهي:
1- الإيمان بالله.
2- والأمر بالمعروف.
3- والنهي عن المنكر.
4- وامتلاك مؤهلات التمكين لتحقيق الشهود على الأمم.
5- وتبليغ رسالات الله بلاغًا مبينًا.
لقد فقدت الأمة كثيرًا من هذه الشروط وجلَّها، فتراجعت عن الشهود وعن البلاغ، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخلها وخارجها. وفقدت الشهود الحضاري، والإمكان الحضاري، والإرادة الحضارية؛ لذلك جرت على المسلمين سُنَّة الاستبدال، وتوافرت عوامل الاستبدال وشروطه فيها، وتمكن التولي وازدهر بين طبقاتها الحاكمة والعالمِة وفي ضميرها الجمعي، وتراجعت في الأمة سُنَّة التدافع ومواجهة الشر والظلم، وكثر شرها، وانتشر الظلم فيها، وهيمن المنكر على حركتها، بل دعا إليه علماء(!) وعالمون بالدين وأولياء الأمر فيها، وانطفأ عملها الرسالي؛ أي أن تكون نافعة لنفسها وللناس، وتحلل كيان الإنسان فيها، فلم يعد هو ذاك الإنسان القادر على صناعة تاريخه، وتبليغ رسالته؛ بل أضحى إنسانًا مريضًا، مجبرًا لا حرًا، ومسيرًا لا مخيرًا، تابعًا لا قائدًا، متشبهًا لا حضاريًا.
من أجل ذلك استحقت الأمة الاستبدال، واستبدالها ليس بهلاكها، وإنما بضعفها ونقل راية العزة والرفعة والمنعة والقيادة لغيرها من الأمم.