(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران).
كان دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يموت شهيداً وفي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعض الصحابة يتعجبون كيف تكون شهادة في المدينة عاصمة الخلافة البعيدة عن مواطن الحرب؟! لكن دعاء الفاروق تحقق كما أراد، أتته الشهادة حيث كان ولم يذهب هو إليها حيث الحروب والفتوحات.
وها هو التاريخ يعاد بأمنيات الرجال، حيث يعيشون رجالاً ويموتون كما يخططون وكما يتمنون، حيث خسر العالم الحر اليوم المطلوب الأول لدى الكيان الصهيوني المحتل والمختل، رجل لم يعرف التاريخ الحديث من هو في مثل ثباته وصموده وصبره حين فقَدَ معظم أبنائه وأحفاده شهداء ليلحق بهم، غير عابئ طالما كان في سبيل فلسطين موته، كما كانت في سبيلها حياته.
اغتالته يد اعتادت الغدر، وطالما فعلت ظناً منها أن المقاومة سوف تتوقف أو تتأثر، وقد اغتالوا قادته ومعلميه والآلاف من قبلهم والآلاف من بعدهم في سبيل نصرة هذا الدين وفي سبيل الحفاظ على تراب فلسطين.
لم تتوقف مسيرة الشهداء، ولن تتوقف، حتى تطهير كامل التراب الفلسطيني وتحرير كافة المقدسات، وكم تمناها هنية وطلبها بصدق فجاءته حيث هو، ولاحقته أينما حل بعيداً عن غزة التي أخرج منها رغماً عنه وهو من كان فيها أول رئيس حكومة منتخب يحكمها، البعض يتوق للشهادة فيحمل السلاح ويجاهد ويتصدى ويتصدر ليلاحقها، وبعضهم تأتيه الشهادة مرغمة حيثما كان تلاحقه، فهي تليق به، ومن مثل هنية تليق به الشهادة.
تاريخ موغل في الإجرام والاغتيالات
لم يكن الشهيد إسماعيل هنية الأول في قائمة الاغتيالات «الإسرائيلية» الدموية في تاريخ النضال الفلسطيني والمقاومة الإسلامية، ففي الوقت الذي ظن فيه المحتل أن مقتل قائد أو عدة قادة يمكن أن يوقف حركة المقاومة أو يعرقل مسيرتها، فقام باستهدافهم واحداً تلو الآخر ليكون أولهم الشيخ القعيد مؤسس حركة «حماس» أحمد ياسين الذي ذاع صيته في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقد أعلن وقتها ميلاد حركة «حماس».
وبالرغم من الظرف الصحي للشيخ لم يرحمه الكيان من الأسر؛ حيث حكم عليه بالسجن مدى الحياة ليفرج عنه عام 1997م، وبعد خروجه من الأسر حاول المحتل اغتياله أكثر من مرة لينجح في ذلك عام 2004م وهو خارج من المسجد لينال الشهادة وهو على كرسيه المتحرك.
وممن اغتالهم المحتل ظناً منه أن موته سوف يوقف حركة الجهاد بفلسطين الشهيد د. عبدالعزيز الرنتيسي الذي تولى القيادة بعد اغتيال القائد ياسين، وبعده بأيام نجح المحتل في اغتياله بإطلاق صاروخ من «أباتشي» على سيارته، وكان من أهم أقواله: «كلنا ننتظر آخر يوم في حياتنا، وقد يأتي الموت من لا شيء سيتغير إن كانت بذبحة قلبية أو بطائرة الأباتشي.. أنا شخصياً أفضل الأباتشي»، حدد الرنتيسي طريقة استشهاده، وقد لقي ربه بها كما تمنى، فهؤلاء قادة يصنعون موتهم بإرادتهم، ويستقبلونه راضين.
وامتداداً لمسيرة الشهداء المباركة، استهدف المحتل القائد الإسلامي نزار ريان بقصف مروحي كالعادة، حيث لا تستطيع «إسرائيل» قتلهم في مواجهة، لا تستطيع الحرب إلا من وراء جدر، فيرتقي الشهيد ريان مع 15 شهيداً من أسرته بقصف منزلهم بمخيم جباليا شمال غزة.
وغير هؤلاء الشهداء كثيرون، منهم الشهيد عماد عقل، ويحيى عياش، وصلاح شحادة، وأحمد الجعبري، وصالح العاروري، واليوم يرتقي هنية ولن يكون آخر المستهدفين ولا آخر الشهداء حتى تتحرر المقدسات.
الاغتيال لن يوقف مسيرة الجهاد
باستعراض تاريخ النضال الفلسطيني، سنجد أن الاغتيالات «الإسرائيلية» لحركات المقاومة عبر تاريخها لم تؤثر سلباً بأي نسبة ولو ضئيلة في وقفها أو إضعافها أو عرقلتها، بل ما يتم دائمًا هو العكس وإلا لتوارت «حماس» عن المشهد بقتل مؤسسها، وما حملت كتائبها اسم «الشهيد عز الدين القسام»، ولما حققت المعجزات وبادرت بالهجوم في 7 أكتوبر 2023م في «طوفان الأقصى» وصمدت حتى اليوم رغم استمرار العدو في القتل غير المسبوق لتكون أكبر قائمة استشهاد في تاريخ القضية في 10 أشهر تجاوزت 40 ألف شهيد فلسطيني، هذا غير عشرات الآلاف من لمصابين والمفقودين.
كل هذا ولم تتوقف مسيرة الجهاد، بل نرى أن الكفة تميل تجاه انتصار ساحق للمقاومة التي يشتد عودها كلما ارتقى أحد قادتها، والتي يتضاعف عدد مجاهديها كلما فقدت عدداً من جنودها.
إن اغتيال هنية لن يعيد أسرى الاحتلال إلى ذويهم آمنين كما قد يظن العدو، ولن يوقف الحرب رغماً عنهم كما يأمل البعض، وإلا لكانت قد توقفت مسيرة صناعة المجد منذ عشرات السنوات، لكن ما حدث هو اشتداد عودها، وبلوغها رشدها، وتنظيم صفوفها، وإجبار العالم على سماعها، كلما فقدت المقاومة قائداً كان بمثابة الري لها فتنمو وتنتشر أكثر.
فهل حققت «إسرائيل» انتصاراً ما بقتل أبي العبد هنية رحمه الله؟ هل يمكن أن تقدم مقتله هدية لشعبها فيتغاضى عن الهزائم الكبيرة التي سقطت فيها الحكومة بقيادة نتنياهو؟ هل تنقذ عملية الاغتيال الساقطة الحكومة من الانهيار والمجتمع «الإسرائيلي» من التفكك؟ هل ستنقذ المنطقة من اتساع رقعة الحرب وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ نعتقد أن الإجابة عن كل هذه التساؤلات: لا.
لن يكون استشهاد هنية إلا لبنة جديدة في بناء كبير، بناء ساهم الكيان المحتل في إنشائه بجبروته وغبائه السياسي ورعونته في التعامل مع المشهد الدموي، إن كثرة القتل لا تصنع وطناً، بل تصنع عصابات مصيرها الفناء والرفض العالمي الحتمي لهذا الكيان السرطاني الذي صار منبوذاً.
وأما «حماس» وإن كان المصاب أليماً، إلا أنها تكتسب المزيد من دماء جديدة، وصعود شباب جدد تربيهم الأنفاق يأتون بتعاليم أشد بأساً، لقد خسر العالم رجلاً صلباً لم تلن له قناة، لكن المقاومة كسبت الكثير، وسوف يولد بدلاً من القائد عشرات من القادة ولوا في ظل الجهاد وتحت القصف وينتظرون دورهم في قافلة الشهداء، يحبون الموت، كما يحب عدوهم الحياة.
وداعا أبا العبد وهنيئاً لك، فالشهادة تليق بك.