ابتليت الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة ببعض الأفكار المنحرفة والدعوات الهدامة، منها: الدعوة إلى الفقر، حيث حرص البعض على نشر الفقر وتسويغ وجوده بين المسلمين، من خلال الاستناد إلى النصوص الشرعية التي أساؤوا فهمها، وأقنعوا من استجاب لهم أن هذا هو المنهج الإسلامي السليم، ومن الذين تولوا كبر الدعوة إلى الفقر في البلاد الإسلامية: الراغبون في احتلال البلاد الإسلامية، والدعاة المسرفون في ذم الدنيا، والساعون إلى ترضية الناس بالأمر الواقع(1)، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: الراغبون في احتلال البلاد الإسلامية:
حرص المحتلون على تحقيق الفقر في حياة المسلمين، من خلال أمور، منها:
1- الترويج المتعمد لفكرة الزهد في الدنيا على أنه يعني التخلي عنها بين المسلمين، والزعم بأن هذا هو المنهج الإسلامي السليم، وذلك عن طريق بعض المستشرقين الذين يعملون لخدمة الاحتلال، ومنهم المستشرق اليهودي جولد تسيهر، الذي زعم أن الإسلام تسوده فكرة إطراح العالم والزهد فيه، وذلك في الوقت نفسه الذي غلبت فيه فكرة التوكل والشعور بالخضوع المطلق(2)، ثم انطلق من هذا الأساس الكاذب إلى الربط بين الصلاح والزهد، فلا يعد صالحاً تقياً إلا من انسحب من الدنيا ولم يأخذ منها شيئاً!
والحقيقة أن نظرة الإسلام إلى المال ليست كذلك، حيث إن الإسلام لا يرى حيازة المال جرماً، ولا تكوين الثروات عصيانا، إن المال سلاح، والسلاح يصلح لنصرة الحق، ونصرة الباطل، أي أن طريقة استخدام هذا السلاح التي تجلب المدح أو القدح، أما إطلاق القول بأن التسلح رذيلة فكلام ساقط، والمال في نظر الإسلام خير جزيل إن اكتسب من حله، وأنفق في وجهه.
فالمال في الإسلام وسيلة يجب أن يتخذها المسلم لبلوغ غايته وهي إرضاء الله تعالى، لكن بعض المستشرقين يتعمدون اختلاق الأكاذيب ونشر الأباطيل من أجل تحقيق أغراضهم وبلوغ أهدافهم.
2- حرص الراغبون في احتلال البلاد الإسلامية على تحقيق الفقر بين المسلمين من خلال تيسير الشهوات لهم وصرفهم عن الأعمال العظيمة، وترغيبهم في الراحة، وتزهيدهم في المطالب العالية، وإشغالهم بسفاسف الأمور، وتعويدهم على الكسل والسلبية والاعتماد على الآخرين في تحقيق أهدافهم، حتى تظل السيطرة الاستعمارية باقية، ويبقى الناس في حاجة إلى المحتل الذي يزعم أنه يحمل الخير والرخاء إلى البلاد الإسلامية، وبقيت هذه الأفكار راسخة في قلوب بعض المسلمين حتى قعدوا عن العمل واهتموا بطلب اللذات وإشباع الشهوات، حتى استولى العدو على الأرض، واستسلم المسلمون للفقر والمذلة.
ثانياً: الدعاة المسرفون في ذم الدنيا:
إن إقبال الناس على الدنيا واتخاذها هدفاً وغايةً دفع الكثير من الدعاة إلى مواجهة هذا الانحراف من خلال الدعوة إلى الإقبال على الآخرة، واتخاذ الدنيا وسيلة لبلوغ السعادة وليست غاية في ذاتها، وهذا أمر محمود، غير أن بعض الدعاة قد أفرطوا في العلاج، فانطلقوا يذمون الدنيا، ويدعون الناس إلى الانسحاب منها، وتركها فراراً من شرها وحذراً من خطرها، حيث نهوا الناس عن حب الدنيا والفتنة بها، وما زالوا يتحدثون عن عيوبها حتى خاف الناس منها، ولم يمتلكوا منها شيئاً، فعانوا آلام الجوع بعدما كانوا يعانون متاعب الشبع الزائد.
إن هؤلاء الدعاة أفرطوا على العلاج وأسرفوا في الدواء، فاعتبروا أن الدنيا عدو لا يحمل إلا الشر، وقد تعلل هؤلاء الدعاة بأنهم ما فعلوا ذلك إلا بسبب الاستخدام الفاسد للمال وطغيان المادة على حساب الروح، والحقيقة أنهم –مع حسن نيتهم- قد وقعوا في الخطأ بسبب سوء العلاج، ذلك أنهم أسرفوا في الدواء؛ مما أدى إلى الإصابة بأمراض أخرى أصعب من المرض الأول.
والصواب أن يفهم المسلم الآيات والأحاديث الواردة في ذم الدنيا على أنها كحقنة «الإنسولين» للمريض بالسكر، تدخل على الجسم مادة زائدة، لتعوض النقص في إفراز الغدد الراكدة، والمعنى أنه إذا طاشت ألباب البعض، فحسبوا الدنيا الوجود كله، وتشبثوا بهذا الظن في تضخيم الحياة وجحود غيرها؛ (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ) (النحل: 38)، فلا بد من كلمة تصور لهم في قوة وإزعاج أن الدنيا التي يبالغون في فهمها، ويحتبسون في إطارها ليست شيئاً مذكوراً إلى جانب الآخرة التي لا بد من استقبالها.
والإسلام لا يذم الحياة أبداً ليخلق أجيالاً تعيش عمياناً في أنوارها، جهالاً أمام أسرارها، بل يذمها ليضمن حدود الاعتدال(3)، فيجب على هؤلاء الدعاة أن يتعرفوا على موطن الداء، وأن يتخيروا الدواء المناسب، والجرعات الملائمة لكل إنسان، حتى لا يسيؤوا من حيث أرادوا الإحسان، ولا يظلموا من حيث أرادوا العدل.
ثالثاً: الساعون إلى ترضية الناس بالأمر الواقع:
اهتم بعض الدعاة بترغيب الناس في الفقر وتحبيبه إليهم، لترضيتهم بالأمر الواقع، حتى لا يسخطوا على حياتهم أو يعترضوا على أرزاقهم، بل إنهم يبالغون في هذا الأمر حين يستدلون على هذه الترضية بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»(4)، والحقيقة أن هذا الحديث ما قُصِد منه الانسحاب من الدنيا على كل حال، وإنما فيه دواء الداء، لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدًا ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعيًا إلى الشكر(5)، فإذا لم يوجد الداء -وهو التعلق بالدنيا واعتبارها هدفًا وغايةً– فلماذا التصميم على أخذ الدواء؟!
ويضاف إلى هذا أن السعي إلى ترضية الناس بالأمر الواقع وتحبيب الفقر إليهم ما هو إلا صورة من صور الدونية، وحرص على الحياة في أبخس صورها، والحقيقة أن هذه المسألة لا تعدو الاستمساك بأهداب الحياة، ولو كانت في الدرك الأسفل من الشقاء، ولو كان مليئاً بالأشواك والأقذار! ترى هذا كله ثاوياً في قرارات النفوس المريضة، تُمَكِّن له التعاليم الضالة والأفكار الخاطئة، فإذا هو يظهر على الألسنة كأنه تسبيح وتحميد، ولكنه في الحقيقة الركون إلى معيشة العبيد!
وقد عاب القرآن قومًا، لأنهم يرضون بالحياة على أي صورها فقال: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 96)، إن عدم الفرار من الحياة القذرة ولو إلى الموت مهانة نفسية، لفّت في سوادها أكثر أقطار الشرق الإسلامي، والغريب أن يكون هذا باسم الإيمان بالله، والتسليم للقدر، مع أن التجارب علمتنا أن الجرأة على الموت فضيلة لا تظهر إلا في الشعوب الحية والأمم القوية، وقد كان العرب الأوائل يحرصون على الموت، أكثر مما يحرص أعداؤهم على الحياة، أما الحياة السقيمة، فهم أبعد الناس عن الرضا بها، أو الهدوء في كنفها، فأين من هذا أقوام يطوون بطونهم على خشاش الأرض ثم لا يرضون بهذا فحسب، بل يقولون: اللهم أدمها نعمة، واحفظها من الزوال(6).
وليس من العيب أن يدعو العبد ربه بحفظ النعمة ودوامها، لكن العيب أن يستسلم للضعف والكسل، وقد ذم القرآن الكريم أولئك الذين رضوا بالدونية وعاشوا مستضعفين في الأرض من غير أن يبحثوا لأنفسهم عن مخرجٍ من ذلك، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء: 97)، ففي الآية تأكيدٌ على أن الهوانَ جريمة، وقضاء الحياة في ضعف واستكانة مرشح أول للسقوط في الدار الآخرة، كما تحرم الآية قبول الدنية وإلف الاستضعاف، وتوجب المقاومة إلى آخر رمق، فالمسلم لا يقبل الحياة على أية صورة وبأي ثمن، إما أن تكون كما يبغى، وإما رفضها وله عند ربه خير منها(7).
فلا يصح أن يقوم بعض الدعاة بتحبيب الفقر إلى الناس وترضيتهم به، اعتماداً على القدر أو ركوناً إلى الكسل، لأن هذا مخالف لمنهج الإسلام ومسبب للضعف والهوان.
_____________________
(1) الدعوة إلى الفقر، دراسة نقدية: د. رمضان حميدة محمد، ص 10.
(2) العقيدة والشريعة في الإسلام: جولد تسيهر، ص 119.
(3) كيف نفهم الإسلام: الشيخ محمد الغزالي، ص 42.
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري (6125)، وأخرجه مسلم (2963).
(5) فتح الباري: ابن حجر العسقلاني (11/ 323).
(6) الإسلام والأوضاع الاقتصادية: الشيخ محمد الغزالي، ص 59.
(7) قذائف الحق: الشيخ محمد الغزالي، ص 218.