إن الإحسان أعلى مراتب الإيمان التي يمكن للعبد أن يصل إليها، وطوبى من وصل إليها وصار من المحسنين، فالإيمان درجات، وليس جميع من أسلم على صعيد واحد من التقوى واليقين والالتزام، فمنهم من أسلم ومنهم من آمن ومنهم من عبد الله كأنه يراه، فصار محسناً ممن يحبهم الله ويحبونه، وقد وردت الإشارة إلى تفاوت درجات الإيمان في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 14).
وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين تلك الدرجات ومعالم كل مرتبة منها، وذلك في الحديث المشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: ما الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ومَلَائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، وبِلِقَائِهِ، ورُسُلِهِ وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ، قالَ: ما الإسْلَامُ؟ قالَ: الإسْلَامُ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، ولَا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، قالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ، قالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قالَ: ما المَسْؤولُ عَنْهَا بأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وسَأُخْبِرُكَ عن أشْرَاطِهَا: إذَا ولَدَتِ الأمَةُ رَبَّهَا، وإذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبِلِ البُهْمُ في البُنْيَانِ، في خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (لقمان: 34) الآيَةَ، ثُمَّ أدْبَرَ فَقالَ: رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شيئًا، فَقالَ: هذا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ» (البخاري: 50).
وقال الإمام محمد بن أحمد السفاريني في حديثه عن هذا المعنى: الدين وأهله -كما أخبر خاتم النبيين وإمام المرسلين – ثلاث طبقات: أولها: الإسلام، وأوسطها: الإيمان، وأعلاها: الإحسان، فمن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي تليها، فالمحسن مؤمن، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمنًا، وهكذا جاء القرآن، فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، قال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر: 32)، فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد: الذي أدّى الواجب وترك المحرم، وهو المؤمن المطلق، والسابق بالخيرات هو المحسن، الذي عبد الله كأنه يراه، وقد ذكر الله تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة في سورتي «الواقعة»، و«المطففين».
ويرتبط الإحسان ارتباطاً أساسياً بدرجة الإخلاص لدى العبد المسلم، فبمقدار إخلاصه في أقواله وأعماله كلها لله تعالى، بمقدار ما يرتقي في مقام الإحسان، قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 112)، وقال سبحانه: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (لقمان: 22).
وعلى العموم، فالإحسان يقترن بجميع العبادات وفضائل الإيمان ومحاسن الأخلاق الإسلامية، وهو ما يشتمل عليه قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 93)، فالله تعالى اختتم وصف أولئك الذين اتصفوا بالإيمان والتقوى وأطاعوا الله فعملوا الصالحات، بالوصف الجامع الشامل وهو الإحسان، كما يرتبط أحد وجوه الإحسان بشكل خاص بالإنفاق في سبيل الله وبذل المال والصدقة على الفقراء والمساكين وفي الجهاد والدعوة، قال تعالى: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195).
وقد أشارت الآيات الكريمة السابقة إلى عظمة الإحسان ومنزلة المسلم والمؤمن الذي يصل إلى تلك المرتبة، فهو جدير بحب الله عز وجل له، ويا لها من كرامة! كما أن المحسن يكتسب عون الله تعالى الدائم ومعيته في كل حال وحين، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل: 128).
ولكن يبقى التعريف الأول والأهم للإحسان هو عبادة العبد لربه كأنه يراه، وذلك أقصى درجات اليقين وأعلى مراتب التقوى، فالمسلم المحسن هو من يتقي الله حق تقاته ويخشاه في الغيب والشهادة، ويؤدي جميع الفرائض ويستزيد من النوافل ويتحلى بمكارم الأخلاق، ويقلع عن الذنوب والمعاصي فيتوب توبة نصوحاً، ويتجنب بحرص وصدق وصبر ما نهى الله تعالى عنه، ويسابق بالخيرات، وقد يصل به الأمر إلى الاقتصاد في الحلال والمباحات، تجنباً للغرق في الدنيا وشهواتها، وبهذا يكون اكتمال الإيمان والإحسان.