يقدم كتاب «سيرة النبي محمد» إطلالة مختلفة على رحلة خاتم المرسلين، ينبع اختلافها عما قدمته كتب السير، أولاً: من كونها رؤية صادرة عن الكاتبة البريطانية والباحثة في تاريخ الأديان كارين آرمسترونج، وثانياً: أنها رؤية موجهة إلى المتلقي الغربي من خلال الخطاب الذي يمكن أن يستوعبه.
وتنبع قيمة الكتاب كذلك من أن مؤلفته عاشت جانباً من حياتها كراهبة، ويبدو أنها وجدت حياة الأديرة غير ملائمة لتجسيد رؤيتها الدينية الخاصة؛ ما دفعها إلى محاولة الفهم والوصول إلى الحقيقة، مفندة أسباب كراهية الغرب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وعداوته للإسلام.
يضم الكتاب الصادر في طبعته الثانية، عام 1998م، 393 صفحة، تلقي الضوء على صفات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وحياة الجاهلية، وفترة نزول الوحي، وتحديات الرسالة المحمدية، ورحلة الهجرة، وغزواته، ووفاته صلى الله عليه وسلم.
تستعرض آرمسترونج حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما أوردتها كتب السير، وما تعرض له من اضطهاد، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ومحاولته إقامة مجتمع خير يقوم على العدل والمساواة والقيم والأخلاق.
تقول المؤلفة: كان محمد رجلاً يواجه وضعاً صعباً للغاية؛ حيث كان الناس يموتون في صراعات لا نهاية لها، ولا أمل فيها، ويغلب عليهم الانتقام الدموي، وسرعان ما يسقطون في دوّامة العنف والحرب، وحينما كان هذا المجتمع يتّجه نحو الهاوية جاء مـحمد صلى الله عليه وسلم؛ ليمنحهم الأمل، فظل 23 عامًا ينشر السلام، ويبث آمالًا جديدة في الجزيرة العربية، حتى أضحت منارة جديدة للعالم بأسره.
ومن أبرز تعليقات الكاتبة على وصف النبي صلى الله عليه وسلم، قولها: كان لدى محمد صلى الله عليه وسلم مواهب روحانية وسياسية عظيمة -رغم الصعوبة العملية في الجمع بين الجانبين معاً- كما أنه كان مقتنعاً أن على كل الأفراد المتدينين مسؤولية إقامة مجتمع خير عادل.
وبينما كان يتملك محمداً صلى الله عليه وسلم أحياناً الغضبُ، فإنه كان أيضاً رؤوفاً شديد التأثر وعلى قدر هائل من التعاطف.. لم نقرأ أبداً أن المسيح عليه السلام قد ضحك، لكننا كثيراً ما نجد محمداً صلى الله عليه وسلم يبتسم ويداعب المقربين منه، نراه أيضاً يلاعب الأطفال ويختلف مع زوجاته ويبكي بحرقة لوفاة أحد أصحابه، فنحن إن استطعنا النظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما ننظر إلى الشخصيات التاريخية العظيمة الأخرى فمن المؤكد أننا سنراه أحد أعظم العباقرة الذين عرفهم التاريخ.
فلأن يأتي برائعة أدبية ويؤسس ديانة عظمى وقوة عالمية جديدة فتلك إنجازات غير عادية، ولكي نوفي عبقريته حقها فإن علينا دراسة المجتمع الذي ولد فيه والقوى التي صارعها.
وتنتقد الكاتبة البريطانية ما روجه الغرب حول الإسلام، قائلة: لجأت الأساطير في محاولة تفسير سر نجاح محمد إلى الزعم بأنه كان ساحرًا دبر معجزات زائفة حتى يخدع العرب السذج، ويدمر الكنيسة في أفريقيا والشرق الأوسط.
وترى المؤلفة أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد تمكن من لم شمل القبائل جميعها وجعلها تلحق بمجتمعه المسلم، ورغم أنه من الصحة القول: إن الأمر لم يكن مستقراً تماماً، إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم أن بدواً كثيرين كانوا متمسكين بالوثنية، لكن على العكس من كل الاحتمالات، استمرت وحدة العرب التي أنجزها رسول المسلمين صلى الله عليه وسلم.
تقول في كتابها: جاء مـحمد صلى الله عليه وسلم لينذر أهل مكة ومن حولها، ويدعوهم إلى خلق مجتمع أكثر عدلاً وكرامة، يرحم الناس فيه الفقراء والأيتام والأرامل والمضطهدين، فقد جاء الإسلام للناس برسالة أخلاقية واجتماعية مُفادها أننا جميعا متساوون أمام الله، وعلينا أن نحسن معاملة الناس ونتعاطف معهم ونعدل بينهم.
وترى كارين أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قدم نموذجاً رفيعاً للتآخي في سلوكه الشخصي، فقد كان يرفض أن يقيم فجوة من الاعتبارات الشكلية أو الرسمية بينه وبين غيره من المسلمين، وكان يكره أن يخاطبه أحد بألقاب التشريف، وكثيراً ما كان يشاهد وهو جالس دون تكلف على الأرض وبين الفقراء والبسطاء.
تضيف: كان رجلاً يتميز بأقصى درجات الشفقة ورقة المشاعر، فكان على سبيل المثال محباً للحيوان، إذا رأى قطة نائمة على بردته تركها وكره أن يقلقها.
ويستعرض الكتاب البلاد والقبائل التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمهما قريش، ومدى المعارضة التي كانت تنتظر كل من يهدد الديانة الوثنية في ذلك الوقت، والضغوط التي تعرض لها للتراجع عن دعوته، والحصار الذي عاناه في شِعب بني هاشم، ومعه قلة من المسلمين الأوائل.
وتتحدث آرمسترونج عن بعض صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان صادقاً، وقائداً حكيماً، يقوم بمهمة يعلم أنها سامية، لديه شخصية مثالية تجعل اليوم أناساً مستعدين للاقتداء به، وقد قدم مجهوداً فريداً لحل المشكلات التي كان يعاني منها مجتمع الجاهلية، وكيف نشر الإسلام في الجزيرة العربية وما حولها، وأن تعدد زوجاته كان مقبولاً في ذلك الوقت كوسيلة لنشر السلام بين القبائل بالمصاهرة، مستعرضة إسهاماته في رفع مكانة المرأة، وكيف كان القرآن الكريم منصفاً لها.
تقول آرمسترونج: كان مـحمد صلى الله عليه وسلم يقف دائماً إلى جانب حقوق المرأة، وعندما توفيت زوجته الحبيبة خديجة، حزن عليها حزناً شديداً، وافتقدها طوال حياته.
وتقدم الكاتبة البريطانية، التي تُرجمت مؤلفاتها إلى لغات عديدة، رؤية مغايرة للغرب، تقوم على أن القتال فرض على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أتباعه، وكان للدفاع عن النفس، مشيرة إلى أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ترك الحرية المطلقة للناس، وعندما فتح مكة لم يكن أبداً هدفه تجريد قريش من سيادتها، وإنما كان هدفه تغيير معتقدات الجاهلية.
تعلق بالقول: في الغرب يصفون النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه قائد عسكري يحمل السيف لفرض الإسلام، لكن الواقع مختلف تمامًا، فالمعنى الأصلي لكلمة الجهاد ليس الحرب المقدسة، بل هو الجهد الجسدي والأخلاقي والروحي والفكري.
وتتابع: الجهاد ليس أحد أركان الإسلام الخمسة، على عكس الاعتقاد الشائع في الغرب، وليس هو الدعامة الأساسية للإسلام، فالجهد الأخلاقي والروحي كان -ولا يزال- واجبًا على المسلمين، فهم مدعوون إلى تأسيس مجتمع عادل لا يُستغل فيه الفقراء والضعفاء.
ويحاول الكتاب المترجم إلى اللغة العربية، عقد مقارنات منصفة بين محمد صلى الله عليه وسلم، وعيسى عليه السلام، بل بين الإسلام من جهة والمسيحية واليهودية من جهة أخرى، لافتة إلى أن تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم أطلقت مخزون قوة العرب لدرجة أنهم وفي خلال مائة عام امتدت إمبراطوريتهم من جبل طارق إلى الهيمالايا.
وترى الكاتبة أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم والمسلمين الأوائل غيروا مجرى التاريخ، وأنهم لم يحققوا انتصاراتهم بسهولة، ولكنهم اشتبكوا في معارك شرسة، انتهت بانتصارهم؛ لأن الاعتبار الأول لهم كان الدين، ورفع راية الله، والموت في سبيله ابتغاء مرضاته وجنانه.
وتستعرض المؤلفة ما أنجزه خلفاء المسلمين بعد حوالي مائة عام من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث دخل الناس أفواجاً إلى الإسلام، ما يبرهن على أن القرآن أجاب عن احتياجات البشر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما برهن أيضاً على أن الإسلام أمكنه استيعاب الحضارات القديمة الأخرى، وسرعان ما أقام موروثاً ومنجزاً حضارياً، لم يكن السيف دعامته.