تصدر روسيا للدول العربية والإسلامية واجهة عن الحياة الوردية للمسلمين فيها مغايرة تماماً للواقع، كما ينجح قادتها في تصوير بلدهم باعتبارها قوة مناهضة للاستعمار ومقارنتها بالغرب، مع أن الحقيقة مختلفة تماماً أو بعض الشيء عن ذلك.
المسلمون في روسيا هم أصحاب الأرض، فهم ليسوا مهاجرين كما هي الحال في الغرب أو بلاد أخرى، فقد وصل الإسلام إلى روسيا عندما فتح المسلمون الأوائل أذربيجان وآسيا الوسطى عام 18هـ، وانتشر الإسلام في جميع أنحاء بلاد القوقاز بفتح المسلمين لبلدة ديربنت في داغستان عام 38هـ.
ومن المعلوم أن روسيا عضو مراقب في منظمة التعاون الإسلامي، حيث إن الإسلام هو ثاني أكبر ديانة فيها بعد المسيحية الأرثوذكسية، فيبلغ تعداد المسلمين حوالي 26 مليونًا على الأقل؛ أي بنسبة 15% من إجمالي السكان، وتشير التقديرات إلى أن المسلمين سيشكلون ثلث سكان روسيا بحلول عام 2030م.
ولكن على الرغم من انتشار الإسلام وتفاخر الكرملين بالتناغم بين الأديان في روسيا، فإن التمييز الديني والمضايقات يشكلان جزءًا من حياة العديد من المسلمين فيها، فعلى عكس الحديث الروسي الرسمي عن التعددية الثقافية والدينية، فإن الواقع على الأرض حالياً وفي التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان وما زال مختلفاً بعض الشيء أو تماماً، حسب اختلاف وجهات النظر، فحتى خلال الحقبة السوفييتية، وفي ظل «صداقة الشعوب» المعلنة، كانت «الإسلاموفوبيا» متفشية إلى حد كبير.
في الحقيقة، الدولة الروسية على مدار السنوات الماضية تغذي «الإسلاموفوبيا» وتشجع أو تفخم الهوية الروسية بشكل كبير، وسنتناول هنا بعضاً من جوانب اضطهاد المسلمين في روسيا خلف الكواليس في ظل غياب اهتمام وسائل الإعلام.
لقد بدأت موجة معاداة الإسلام في التزايد بشكل مخيف في التسعينيات وبداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع الحروب الروسية على الشيشان، وهنا لا بد من ذكر أن الروس كانوا من مؤيدي الصرب في حروب إبادتهم للمسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفو.
لقد خضتُ شخصياً تجربة صعبة كوني مسلمة في روسيا وتحديداً في العاصمة موسكو التي عشت فيها لسنوات طوال، بسبب غطاء الرأس أو كما نسميه الحجاب، كما شاهدت وعاصرت معاناة المسلمين الملتزمين بدينهم على مختلف المستويات، وكثيراً ما سمعت من المقربين عن تعرضهم لاعتداءات عنصرية جسدية ومعنوية في الشوارع ومحطات المترو، وفي بعض الأحيان تعرض المسلمون؛ رجالاً ونساء، للتحرش والاعتداءات أمام أعين الشرطة التي غالباً ما تكون متواطئة مع المعتدين، كما اضطرت الكثير من الأسر المسلمة الروسية التي أعرفها بشكل شخصي، في السنوات القليلة الماضية، إلى الهجرة إلى تركيا أو بعض الدول العربية أو حتى إلى الغرب هربًا من الاضطهاد الديني، كما تعرض بعض العاملين في مجال الدعوة الإسلامية الذين يتبنون فكراً إسلامياً معتدلاً أقرب إلى الليبرالية، إلى الاعتقال والسجن بتهم مفبركة بدعوى نشر الفكر المتطرف!
الهجوم الإرهابي على القاعة الموسيقية القريبة من موسكو فاقم من موجة «الإسلاموفوبيا»
ومع الهجوم الإرهابي الذي وقع على قاعة مدينة كروكوس الموسيقية القريبة من العاصمة موسكو ومقتل 144 شخصاً في مارس 2024م، بدأت موجة معاداة الإسلام في التصاعد بوتيرة حادة، مع أن الوضع لم يكن أفضل في السنوات الماضية.
وفي خضم تصاعد المشاعر المعادية والمتهمة لكل ما هو إسلامي بالإرهاب، تزايدت الهجمات العنصرية ضد النساء المسلمات في وسط روسيا وفي العاصمة موسكو، كما ظهرت جماعات حالقي الرؤوس (Skin Heads) أو الجماعات النازية التي ترفع الشارات النازية وتجول الشوارع والمدن الروسية وعلى الأخص العاصمة موسكو أمام أعين الشرطة وتعتدي على الأجانب والمسلمين خاصة دون أدنى أي حماية من أجهزة الدولة وسط هتافات عنصرية ونازية «روسيا للروس» (الروس بالمعنى العرقي للكلمة)، أيضاً ظهرت قبيل الحرب مع أوكرانيا نداءات محذرة للنساء المحجبات من الامتناع عن المشي بمفردهن أو مغادرة منازلهن بعد حلول الظلام تجنباً للتعرض لأي اعتداءات بسبب غطاء الرأس الذي يظهر كونهن مسلمات.
ومع ذلك، بدأت اللهجة الروسية تختلف بعض الشيء وتميل إلى جذب ود المسلمين مع الحرب الروسية الأوكرانية، كما خفت حدة معاداة الإسلام قليلاً، لكن مع وقوع ذلك الهجوم الإرهابي على القاعة الموسيقية في مارس الماضي عادت الأمور إلى طبيعتها واشتعلت موجة الاعتداءات على المسلمين مرة أخرى، بالطبع كان اختلاف اللهجة لمصالح قومية ولكسب تأييد المسلمين وقمعهم بشكل مختلف؛ بتجنيدهم في الصفوف الأولى في القتال ضد أوكرانيا.
وهنا لا بد من فهم حقائق الأمور وفهم طبائع الشعوب، لذا دعونا نلقي بعض الضوء على جانب من جوانب معاناة المسلمين الروس في السنوات الماضية، ولماذا تتغير حدة معاداة الإسلام من آن لآخر؟
منع ترجمة القرآن في روسيا
في سبتمبر 2013م، قضت محكمة روسية في مدينة نوفوروسيسك جنوبي روسيا بحظر ترجمة معاني القرآن الكريم بموجب قانون روسي مناهض للتطرف، وأصدرت محكمة نوفوسيسك في جنوب روسيا قرارًا صادمًا للمسلمين؛ حيث قررت منع وإحراق ترجمة معاني القرآن الكريم بزعم قانون منع الكتب المتطرفة.
ومن جانبها، فقد ذكرت منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أن القرار قريب جدًّا من منع القرآن نفسه في حال تأييد الحكم، وقال أحمد يارليكانوف، الخبير في الإسلام بأكاديمية العلوم الروسية حينها: إنهم على وشك منع القرآن.
وقد حذر آنذاك مجلس المفتين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من توترات عرقية في حال تأييد قرار المحكمة.
حكم قضائي باعتبار «صحيح البخاري» و«صحيح مسلم» و«رياض الصالحين» كتباً إرهابية وحظرها
يُذكر أنه قد تم التصويت في عام 2002م على قانون «مكافحة التطرف» الذي اعتمدت عليه محكمة نوفوسيسك، ومنذ عام 2002م تم وضع أكثر من ألفي كتاب إسلامي في القائمة السوداء، وتم حظرهم من قبل وزارة الداخلية، وفي عام 2012م قررت المحكمة منع 65 كتابًا إسلاميًّا في جميع أنحاء البلاد، بما فيها «صحيح البخاري» و«صحيح مسلم» و«رياض الصالحين»، وتم الزج بالكثير من المسلمين في السجون.
ومنذ عامين فقط، وتحديداً في سبتمبر 2022م، فاجأ الرئيس بوتين الجميع في توقيت لافت، وأمر بإلغاء مرسوم سابق أصدره قبل أعوام، يمنع نشر واستنساخ كتاب «صحيح البخاري» في روسيا وإعادة نشره مرة أخرى، جاء ذلك في ظل الحرب الروسيّة الأوكرانية، وسط تزايد الحاجة إلى دعم المسلمين والعرب، في خضم عداء الغرب لروسيا.
بناء على ما سبق، يجب على العرب والمسلمين ألا ينخدعوا بالعبارات والأفعال الزائفة للآخرين، وألا تكون قراراتهم قائمة على عواطف غير صائبة، وأيضاً يجب عليهم تسمية الأشياء بأسمائها، وأن يعوا حقائق الأمور، وأن تكون قراراتهم السياسية قائمة على فهم لطبيعة الشعوب الأخرى ودوافعها الحقيقية وراء أي حدث من الأحداث.
إن معاناة المسلمين الروس بسبب معاداة الإسلام في روسيا مشكلة لا يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها، لذا لا بد من تسليط الضوء على أحوال المسلمين فيها بشكل موضوعي وعدم الانجرار وراء وسائل الإعلام المغرضة أو الدعاية الزائفة التي تهدف إلى مصالح قومية ولا تهدف إلى عرض الحقيقة كما هي، وهي المهمة الرئيسة للإعلام.
_______________________________
(1) https://www.muslim.ru/en/articles/139/13112
(2) https://www.ajnet.me/news/2013/9/21/%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%88-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D9%8A%D8%AD%D8%B0%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D8%B8%D8%B1-%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86
(3) https://www.theguardian.com/books/booksblog/2013/oct/08/russian-court-bans-quran-translation
(4) https://www.lemonde.fr/en/international/article/2024/03/30/russia-faces-wave-of-islamophobia-after-moscow-attacks_6666864_4.html
(5) https://www.ajnet.me/programs/beyond-authority/2022/9/16/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D9%86%D8%B4%D8%B1-%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%86-%D8%A3%D8%AD%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84
(6) https://www.aljazeera.com/news/2014/11/25/russias-crackdown-on-crimeas-muslims